عبد السلام بن مشيش شيخ الإمام الشاذلي وساكن جبل “العلم”
هناك حيث يرقد المولى عبد السلام بن مشيش في أعلى جبل العلم في شمال المغرب وهنا في أعلى جبل الزلاج حيث المغارة والمقام الشاذليين، وهناك أيضا على شاطئ الإسكندرية حيث ضريح أبي العباس المرسي، وفي حميثرا بصحراء عيذاب المصرية، حيث حط عصا الترحال الإمام أبو الحسن الشاذلي وقد دعا ربه أن يقبضه في أرض لم يعص فيها الله -وكان في طريقه إلى الحج- حجة العمر التي أكرمه الله بها، وأشار بها إشارة خفية ذكية عندما طلب ممن كانوا معه وفي رفقته أن يأخذوا معهم قفة وفأسا وحنوطا، فلما سألوه قال لهم: “عندما نصل حميثرا فسترى” فكانت حميثرا في قلب صحراء مصر التربة هي التي حوت جسد أبي الحسن الشاذلي. رحمه الله.
فضاءات عالية رفيعة مليئة بالأنوار والسكينة والطمأنينة تغشاها الملائكة وتخشع فيها قلوب العارفين، وتدمع لجلالها جمالها عيون المحبين من أهل الله المتقين، مزارات لا تزال عبر القرون تشد إليها المؤمنين السالكين أولئك الذين نور الله أبصارهم وهدى قلوبهم وملأها بذكره فانطلقت ألسنتهم تسبح بحمده وتشكره وتعمر ما بينه وبينها فإذا هم في نعيم مقيم.
رجالات عارفون وعلماء عاملون وعباد مخلصون رفع الله ذكرهم وجمع القلوب على حبهم فإذا بحضورهم يخترق الزمان والمكان ليثبت –وإن كان ذلك لا يحتاج إلى إثبات- بأن وراء هذا العالم المادي الفاني عوالم أخرى عميقة الأغوار شديدة الاتصال والوصال لا يحول بين من اصطفاهم واجتباهم ربهم أي حائل من الكثافات والظلمات وكل هذه الماديات.
لقد شهد لقوة روحانية المولى عبد السلام بن مشيش من عاشوا في زمانه من العلماء العارفين وسلموا له بالمشيخة الروحانية الكبرى وهو هناك في جبل “العلم” منقطع عن الناس يكاد لا يغمض عينيه: حراسة للثغور وإحياء لليل بالذكر والضراعة والدعاء عملا بالحديث الشريف (عينان لا تمسهما النار عين باتت تحرس المسلمين وعين بكت من خشية الله)، لم ينشغل عبد السلام بن مشيش بدنيا الناس بل انشغل بربه الذي تاقت واشتاقت إليه روحه فنالت مرادها ومبتغاها واعترف له بالولاية العظمى والمشيخة الكبرى القاصي والداني وإذا بأبي الحسن الشاذلي الباحث عن الشيخ المربي في أقصى الشرق ينصح ويرشد بأن الشيخ الذي يبحث عنه ليس إلا عبد السلام مشيش الذي تركه بالمغرب فقفل إليه راجعا وأقبل عليه متبرئا من كل حول وطول.
قال سيدي أبو الحسن الشاذلي (لما دخلت العراق اجتمعت بالشيخ أبي الفتح الواسطي فما رأيت بالعراق مثله، وكان بالعراق شيوخ كثر وكنت أطب القطب فقال لي الشيخ أبو الفتح تطلب القطب بالعراق وهو في بلادك، ارجع إلى بلادك تجده فرجعت إلى بلاد المغرب إلى أن اجتمعت بأستاذي الشيخ الولي العارف الصدّيق القطب الغوث أبي محمد عبد السلام بن مشيش الشريف الحسني).
قال أبو الحسن: لما قدمت عليه (عبد السلام بن مشيش) وهو ساكن مغارة برباطه في رأس الجبل اغتسلت في عين في أسفل رأس جبل، وخرجت عن علمي وعملي وطلعت عليه فقيرا وإذا به هابط علي فلما رآني قال لي: مرحبا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: يا علي طلعت إلينا فقيرا من علمك وعملك وأخذت منا غنى الدنيا والآخرة فأخذني منه الدهش فأقمت عنده أياما إلى ان فتح الله على بصيرتي ورأيت له خرق عادات من كرامات وغيرها.
الإذن بالرحيل إلى افريقية (تونس)
قال عبد السلام بن مشيش وهو يودع تلميذه ومريده وناشر علمه من بعده (يا علي ارتحل إلى افريقية واسكن بها بلدا تسمى شاذلة (قريبا من المرناقية اليوم) فإن الله يسميك الشاذلي وبعد ذلك إلى مدينة تونس ويؤتى عليك بها من قبل السلطنة وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق وترث فيه القطبانية).
وكان لا بد من وصية يوصي بها الشيخ عبد السلام بن مشيش مريده وتلميذه وخليفته من بعده، قال أبو الحسن، قلت يا سيدي أوصني فقال: الله، الله والناس نزه لسانك عن ذكرهم وقلبك عن التمايل من قبلهم وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وقد تمت ولاية الله عليك ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد تم ورعك وقل: اللهم ارحمني من ذكرهم ومن العوارض من قبلهم ونجني من شرهم وأغنني بخيرك عن خيرهم وتولني بالخصوصية من بينهم إنك على كل شيء قدير.
كلمات مشرقة
ووصايا عبد السلام بن مشيش مليئة بالحكمة والمعرفة والإشراق وهي كلمات عارف من كبار العارفين، وهي على قلتها مليئة بالمعاني تدل دلالة قطعية أن الرجل انتهت إليه بحق القطبانية العظمى.
نقل عنه تلميذه الوحيد وخليفته من بعده وشيخ المدرسة الشاذلية الإمام أبو الحسن الشاذلي البعض منها سواء كان ذلك في لقائهما غير الطويل أو فيما ظل يتلقاه عنه عن طريق الرؤى المنامية (والرؤيا جزء من سبع وأربعين جزء من النبوة) كما جاء في الحديث الشريف.
قال أبو الحسن أوصاني أستاذي (يعني عبد السلام بن مشيش) فقال:
لا تنقل قدميك إلا حيث ترجو ثواب الله ولا تجلس إلا حيث تامن غالبا من معصية الله ولا تصحب إلا ما تستعين به على طاعة الله ولا تصطف لنفسك إلا من تزداد به يقينا وقليل ما هم.
وقال: أهرب من خير الناس أكثر مما تهرب من شر الناس فإن شرهم يصيبك في بدنك وخيرهم يصيبك في قلبك ولئن تصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك.
وقال: سيئتان قل ما ينفع معهما كثرة الحسنات: السخط لقضاء الله والظلم لعباد الله وحسنتان قل ما يضر معهما كثرة السيئات: الرضى بقضاء الله والصفح عن عباد الله.
وقال أفضل الأعمال أربعة بعد أربعة: المحبة لله، والرضا بقضاء الله، والزهد في الدنيا، والتوكل على الله والقيام بفرائض الله واجتناب محارم الله والصبر على ما لا يعني والورع عن كل شيء يلهي.
وقال: أربعة من كن فيه احتاج الخلق إليه، وهي غنى عن كل شيء: المحبة لله تعالى، والغنى بالله والصدق واليقين والصدق في العبودية واليقين بأحكام الربوبية (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).
من معين ابن مشيش نهل كل من جاء بعده
وحكم عبد السلام بن مشيش ومأثوراته على قلة ما وصلنا منها مما تضمنته الكتب التي ترجمت لتلميذه وخليفته أبي الحسن الشاذلي (كلطائف المنن ودرة الأسرار والمفاخر العلية) هي الأسس التي ارتكز عليها ونهل من معينها عطاء المدرسة الشاذلية قديما وحديثا بداية بأحزاب واستغاثات وضراعات ومأثورات أبي الحسن الشاذلي، وأحزاب المرسي وحكم ابن عطاء الله وبقية مؤلفاته (كالتنوير في إسقاط التدبير وتاج العروس وغيرهما) وأشعار البوصيري وقواعد زروق، إلى مؤلفات شيخ الشاذلية وإمامها في العصر الحديث الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر وكذلك مؤلفات عبد الواحد يحي (رني قنون) Rene Guenon ومصطفى فلسان M.Valsan وحسين نصر وشيون ولينغ إلى قريل ولدوز وجوفروا وجيليس وبيري (سعيد) وبنو وغيرهم وغيرهم كثير جدا. فالكل نهلوا ولا يزالون من معين المولى عبد السلام بن مشيش وتلميذه أبي الحسن الشاذلي، ولا يزال جبل العلم مرقد بن مشيش بالمغرب كما لا يزال المقام والمغارة الشاذليين بتونس وحميثرا بصحراء عيذاب المصرية (حيث قبر الإمام أبي الحسن الشاذلي) ورباط الإسكندرية حيث أبو العباس المرسي والبوصيري ومقام ابن عطاء عند جبل المقطم بالقاهرة لا تزال هذه المواقع والمشاهد الروحية مثوى لقلوب المحبين والعارفين من أتباع مختلف فروع الطريقة الشاذلية خصوصا والصوفية عموما بل والباحثين عن الراحة النفسية والطمأنينة القلبية والحقيقية الأزلية حتى من غير المسلمين من مختلف الأجناس والثقافات والديانات.
(فجبل العلم) حيث مرقد المولى عبد السلام بن مشيش المليء إشراقا وروحانية لا تنقطع أفواج زواره الذين يأتونه من كل صوب وحدب لا يمنعهم مانع من بعد ووعورة في الطريق والمسالك المؤدية إلى المرقد المبارك والذي ترتفع –على امتداد الساعة وتواصل الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات- من جوانبه أصوات المقرئين المرتلين لكتاب الله العزيز بأصوات شجية ونبرات مغرقة في الحضور مليئة بالصدق تعقبها قراءة جماعية لتلك التصلية المشيشية على الحضرة المحمدية والتي انتشرت في كل الأمصار، وحفظت عن ظهر قلب من طرف الكبار والصغار والذكور والإناث والعلماء والأميين، وألفت في شرحها وبيان عمق مضامينها عشرات الرسائل واتخذها السالكون لطريق الله وردا عليه يواضبون ودعاء به يستفتحون ويناجون به ربهم والتي نوردها تعميما للفائدة واستلهاما واستفتاحا بها وتعرضا للنفحات الربانية وتواصلا ندعو الله أن يحققه مع صاحبها المولى سيدي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه.
صلاة سيدي عبد السلام بن مشيش
بسم الله الرحمان الرحيم
اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق وله تضاءلت الفهوم فلم يُدرِكُه منا سابقٌ ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لو لا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط صلاة تليق بك منك إليه كما هو أهله، اللهم انه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك، اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل، وأكرعُ بها من موارد الفضل، وأحملني على سبيله إلى حضرتك حملا محفوفا بنصرتك، وأقذف بي على الباطل فأدمغه وزُج بي في بحار الأحدية وأنشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في بحر عين الوحدة حتى لا أرى ولا اسمع ولا أحس إلا بها واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي وروحه سر حقيقتي، وحقيقته جامع عوالمي بتحقيق الحق الأول، يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن، اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا، وانصرني بك لك، وأيدني بك لك أجمع بيني وبينك، وحل بيني وبين غيرك (3)، يا الله يا الله يا الله، إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا(3) إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، صلوات الله وسلامه وتحيته ورحمته وبركاته على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه عدد الشفع والوتر وعدد كلمات ربنا التامات المباركات سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وإذا كان المولى عبد السلام بن مشيش رحمه الله وأجزل مثوبته قد التحقت روحه ببارئها في شهادة أكرمه الله بها على يدي مدعي النبوة ابن أبي الطواجن سنة 625 هـ/27/1226 وتقول كتب التاريخ أن الذين دفعوا لاغتيال المولى عبد السلام بن مشيش وهو قائم لصلاته في فجر ذات يوم قد حل بهم عذاب الله العاجل وماتوا شر ميتة فذهبوا وذهب ريحهم ومحي ذكرهم فإن المولى عبد السلام بن مشيش لا يزال رفيع الشأن حاضرا الحضور الفاعل في قلوب المؤمنين والمحبين.