آداب الاجتماع
ظاهره الآداب والأخلاق *** مع كل خلق ما له خلاق
باطنه منازل الأحوال *** مع المقامات لذي الجلال
قلت: لما أخبر أن الطريق لها ظاهر, وهو ما يظهر على الجوارح من الآداب المرضية والأخلاق السنية والأعمال الزكية ولها باطن, وهو: ما يكمن في القلوب من الواردات الإلهية والأحوال الربانية والمقامات اليقينية والعلوم اللدنية والأسرار القدسية, عين هنا ما يختص به الظاهر وما يختص به الباطن, فأخبر أن ظاهر الطريق: الآداب, وحقيقته عند الصوفية حفظ الحواس, وضبط الأنفاس, أي الأوقات, والحق أنه تهذيب الجوارح وتصريفها في أنواع المصالح.
قال السلمي رضي الله عنه: وعلى كل جارحة آداب تختص به, قال الله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}.
وقال بعض المشايخ: حسن ـ مع الله تعالى: لا تتحرك جارحة من جوارحك في غير رضي الله عز وجل, فأدب اللسان أن يكون رطبا بذكر الله تعالى, وبذكر الإخوان بخير, والدعاء لهم, وبذل النصيحة, والوعظ, ولا يكلمهم بما يكرهون, ولا يغتب ولا ينم (يعني يمشي بالنميمة) ولا يشتم ولا يخض فيما لا يعنيه, وإذا كان في جماعة تكلم معهم ما داموا يتكلمون فيما يعنيهم, فإذا أخذوا فيما لا يعنيهم تركهم وأمسك, ويتكلم في كل مكان بما يوافق الحال, فقد قيل: لكل مقام مقال, وقيل: خلق الله اللسان ترجمانا للقلب, ومفتاحا للخير والشر وقيل: إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك. والزم الصمت, فإنه ستر للجاهل وزين للعاقل, قال صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وآداب السمع: ألا تسمع الفحش والخنا والغيبة والنميمة والمناكر, وانشدوا:
أحب الفتى ينفي المناكر سمعه *** كأن به عن كل فاحشة وقرا
بل يسمع الذكر والوعظ والحكمة وما يعود إليه بالفائدة دينا ودنيا, ويحسن الإصغاء إلى مكلميه ومخاطبيه, ملتذا بذلك.
وآداب البصر: الغض عن المحارم, وعن عيوب الإخوان, وعن المنكرات والمحرمات, فان الله تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
وقيل: من طاوع طرفه تابع حتفه (أي موته) وفي رواية (من أرسل طرفه مات حتفه) وأنشدوا.
وإنك مهما ترسل الطرف رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المناظر
ترى ما الذي لا كله أنت قادر *** عليه, ولا عن بعضه أنت صابر
ثم قال السلمي: وقيل من غض طرفه ثم ظرفه, وقيل: من كثرت لحظاته دامت حسراته, ويكون نظره بالاعتبار والاستدلال على قدرة الله تعالى وعظمته وجميل صنعه عاريا عن حظوظ النفس الأمارة بالسوء.
حكى عن بعضهم أنه قال: نظرت إلى شخص نظرة شر, فرأيت في المنام قائلا يقول لي: الدنيا داري, والخلائق فيها عبيدي وإمائي, فمن نظر إلى واحد منهم بغير حق فقد خانني, فانتبهت وآليت إلا أنظر إلى شخص بعد ذلك إلا على حد الأمانة.
وحكا عن أبى يعقوب النهرجوري أنه قال: رأيت في الطواف إنسانا بفرد عين, وهو يقول: أعوذ بك منك, فقلت: ما هذا الدعاء, فقال: اعلم أني مجاور منذ خمسين سنة فرأيت يوما شخصا استحسنته فإذا لطمة وقعت على عيني, فسالت على خدي, فقلت: آخ فقيل لي: لحظة بلطمة, ولو زدت لزدناك.
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (إياك أن تتبع النظر فان الأولى لك والثانية عليك).
وآداب القلب مراعاة الأحوال السنية المحمودة, ونفي الخواطر الردية المذمومة, والتفكر في آلاء الله ونعمائه وعجائب خلقه, قال الله تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا على جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}. الآية.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة).
قلت: وفي رواية: (خير من عبادة سبعين سنة).
فيحمل الأول على تفكر أهل الدليل, والثاني على تفكر أهل الشهود.
ومن آداب القلب: حسن الظن بالله وبجميع المسلمين, وتطهيره من الغل والحسد والخيانة وسوء الظن وسوء المعتقد, فإنها من خياناته, قال الله تعالى: {إنّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح بصلاحها سائر الجسد, وإذا فسدت فسد سائر الجسد, إلا وهي القلب).
قال سري السقطي: القلوب ثلاثة, قلب كالجبل لا يحركه شيء, وقلب كالنخلة أصلها ثابت والريح يميل بها يمينا وشمالا, وقلب كالريشة يذهب مع كل ريح ولا يثبت.
وآداب اليدين: البسط بالبر والإحسان, وخدمة الإخوان وألا يستعين بهما على معصية الله تعالى.
وآداب الرجلين: السعي بهما في صلاح نفسه وإخوانه, وألا يمشي بهما مرحا, ولا يختال ولا يتبختر, ولا يزهو, فإنها مما يبغضه الله تعالى, وألا تستعين بهما على المعاصي. انتهى.
وأما الأخلاق, فالمراد بها: حسن الخلق مع كل مخلوق, ومرجعها إلى: الحلم, والعفو, والصبر.
أو تقول: مرجعها إلى أن تعامل الخلق بما تحب أن تعامل به.
أو تقول: مرجعها إلى كف الأذى, وبذل الندى, والإنصاف فيما ظهر وما بدا, وحمل الجفا, وشهود الصفا, ورمي الدنيا بالقفا.
وقال الغزالي: هي ملك النفس عند الشهوة والغضب, ويرجع إلى ما تقدم.
وقوله (مع كل خلق ماله خلاق) معناه: أن تحسن أخلاقك مع من لا خلاق له, أي لا نصيب له عند الله, أمرك أن تحسن أخلاقك مع من لا قدر له, لأنه هو الذي يحتاج إلى تحسين الأخلاق, وأيضا التأدب وحسن الخلق مع من لا خلاق له يتضمن التأدب مع غيره بالأحروية, ومرجع ذلك لقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
قال عليه الصلاة والسلام: (أمرني ربي أن أعطي من حرمني, وأعفو عمن ظلمني, وأصل من قطعني).
وقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}. ومعناه أن تحسن إلى من أساء إليك.
وقوله: (باطنه منازل الأحوال... مع المقامات) يعني: أن باطن الطريق هو محل تنزل الأحوال والمقامات, وهي القلوب والأسرار, لأنها باطنية لا يعلمها إلا الله, والفرق بين الحال والمقام أن الحال يتحول فيذهب ويجيء, بخلاف المقام, فإنه رسوخ وتمكين.
قال في العوارف: كثر الاشتباه بين الحال والمقام, واختلفت إشارات المشايخ في ذلك ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما, وتداخلهما فتراءى للبعض الشيء حالا وتراءى للبعض مقاما, وكلا الروايتين صحيح لوجود تداخلهما, ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما على أن اللفظ والعبارة عنهما تشعر بالفرق.
فالحال سمى حالا لتحوله, والمقام مقامات لثبوته واستقراره, وقد يكون الشيء بعينه حالا, ثم يصير مقاما, مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة, ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس, ثم تعود, ثم تزول, فلا يزال العبد حال المحاسبة تعاهده الحال, ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم, ويغلب حال المحاسبة فتنقهر النفس وتنضبط, وتتملكها المحاسبة, فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه, ثم ينازله حال المراقبة, فمن كانت المحاسبة مقامه تصير له المراقبة حالا, ثم يحول عنه حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد, إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة, ويتدارك الله عبده المعونة, فتصير المراقبة مقاما بعد أن كانت حالا, ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة, ولا يستقر مقام المراقبة إلا بنازل حال المشاهدة, فإذا منح العبد نازل حال المشاهدة استقرت مراقبته وصارت مقامه, ونازل المشاهدة أيضا يكون حالا ويحول بالاستتار, ويظهر بالتجلي, ثم يصير مقاما, وتتلخص شمسه من كسوف الاستتار, ثم في مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه, كالتحقق بالفنا والتخلص إلى البقاء, والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين, وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب, وذلك أعلى فروع المشاهدة. انتهى.
وكذلك التوبة والورع والزهد والتوكل والرضا والتسليم, تكون أحوالا, ثم تصير مقامات, فما دامت مجاهدة فهي أحوال, فإذا كانت ذوقا فهي مقامات.
وقد قالوا: الأحوال مواهب, لأنها موهبة من الله جزاء على الأعمال, والمقامات مكاسب, لأن التمكين منها مكتسب بدوام الأعمال.
وفي التحقيق: كلها مواهب.
وقول سيدنا علي كرم الله وجهه: (سلوني عن طرق السماوات, فإني أعرف بها من طرق الأرض) أشار إلى المقامات والأحوال فإن السالك يصير قلبه سماويا, فهي طرق السماوات, ومستنزل البركات. قاله السهروردي أيضا.
وقوله: (لذي الجلال) يتعلق بمحذوف, أي يستقر بها عند ذي الجلال, وهو الحق تعالى ـ ذو الجلال والإكرام ـ والله تعالى أعلم.
ولما كان بين الظاهر والباطن تلازم: ما كمن في هذا ظهر في هذا, أشار إلى ذلك بقوله:
والأدب الظاهر للعيان *** دلالة الباطن في الإنسان
قلت: هذا داخل فيما تقدم من أن صحة الظواهر تدل على صحة البواطن, فما استودع في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها).
فأحوال الظاهر تابعة لأحوال الباطن, فالأسرة تدل على السريرة, وما فيك ظهر على فيك, وكل إناء بالذي فيه يرشح, وما خامر القلوب فعلى الوجوه أثره يلوح, فتهذيب الجوارح يدل على تهذيب القلوب, وآداب الظاهر يدل على آداب الباطن.
حُكيَ أن الجنيد دخل على أبى حفص النيسابوري, فرأى أصحابه واقفين عند رأسه كأصحاب الملك, فقال الجنيد: أدبت أصحابك يا أبا حفص أدب الملوك؟ فقال: لا يا أبا القاسم: ولكن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن.
وهو الذي ذكر الناظم هنا, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر فضيلته فقال:
وهو أيضا للفقير سند *** وللغني زينة وسؤدد
وقيل: من يحرم سلطان الأدب فهو بعيد, ما تدانا واقترب.
وقيل: من تحبسه الأنساب فإنما تطلقه الآداب.
قلت: المراد بالفقير هنا: من لا مال له, بدليل مقابلته بالغني وإنما كان الأدب سندا للفقير أي معتمدا عليه, ويرتفع إلى مقام الأكابر دينا أو دنيا, لأن القلوب مجبولة على حب أهل الإحسان والتواضع والحلم, فإن أراد اللحوق بأكابر الدين كان أدبه معهم سببا في التحاقه بهم, وإن أراد اللحوق بأكابر الدنيا, كان أدبه أيضا سببا في لحوقه بهم, لأن القلوب مجبولة على حب أهل الإحسان كما تقدم.
وإنما كان للغني زينة وسؤددا أي شرفا, لأن الغني محبوب بالطبع, فإذا كان أديبا متأدبا زاد عندهم شرفه.
ومن آداب الغني: التواضع والكرم, فإذا خلا من هذين فليس بأديب, وإذا خلا الغني من الآداب التحق بالأراذل, وانخرط في سلك الأنذال, ولذلك قيل: خير ما أعطيَ الإنسان: عقل يزجره, فإن لم يكن فحياء يمنعه, فإن لم يكن فقال يستره, فإن لم يكن فصاعقة تحرقه يستريح منه البلاد والعباد.
والآداب أيضا من موجبات القرب والوصال؛ ولذلك قيل: (من يحرم سلطان الأدب) أي يمنع منه ولم يوجد فيه شيء منه (فهو بعيد ما تدانا) في زعمه (واقترب) في وهمه, فما مصدرية, وتدانا واقترب من عطف التفسير والمرادف, أي فهو بعيد مدة كونه متدانيا قريبا في ظنه.
وأشار بهذا لقول أبى حفص رضي الله عنه: التصوف كله أدب, لكل وقت أدب, ولكل حال أدب, ولكل مقام أدب, فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال, ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب, مردود من حيث يظن القبول.
وقال ابن عطاء الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب, فتؤخر العقوبة عنه, فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد وأوجب العباد, فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يدري, ولو لم يكن إلا منع المزيد, وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري, ولو لم يكن إلا أن يخليه وما يريد.
وإنما سمى الناظم الأدب سلطانا لأنه حاكم على الشخص في نفسه, فلا يتركه يميل إلى جهة النقائص والرذائل.
ومن فضيلة الأدب أنها تلحق من لا نسب له بذوي الأنساب, وتصير الوضيع شريفا والدني رفيعا, ولذلك قيل: (من تحبسه الأنساب الدنية تطلقه الآداب المرضية) أي من يحبسه عن الارتفاع مع الكبراء نسبه الوضيع, يطلقه إلى طلب العلو أدبه الرفيع.
قيل لبعض الملوك في بعض الكتب أنه ليس بحسيب, أي من قوم لهم حسب, فسأله الملك, فقال الملك: أنا حسيب لأولادي, أي يصير أولادي من ذوي الأحساب بسببي, وهكذا كما قال بعضهم: (نحن بنات المجد لغيرنا) أي نحن نؤسس المجد ونبنيه لغيرنا, (ولا نستظل ببناء مجد غيرنا) وفي ذلك قيل:
كن حليما ودع فلان ابن من كان *** حليما واجمع إلى الحلم علما
ولا تكن سكرا فيأكلك الناس *** ولا حنظلا تذاق وترمى
ثم تمم فضيلته وشرفه فقال:
فالقوم بالآداب حقا سادوا *** منه استفاد القوم ما استفادوا
(قلت) السؤدد هو الشرف أي ما ساد القوم وشرفوا إلا بالآداب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع أشياخهم ومع سائر المسلمين, فالأدب مع الله بامتثال أمره واجتناب نهيه, والاستسلام لقهره.
وقال الشيخ زروق رضي الله عنه في شرح الحكم: هو حفظ الحدود, والوفاء بالعهود والنطق بالملك الودود, والرضا بالموجود, وبذلك الطاقة والمجهود.
والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وإيثار صحبته, والاهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه.
والأدب مع الأشياخ بحفظ الحرمة, وحسن الخدمة, وصدق المحبة.
والأدب مع المسلمين, بان تحب لهم ما تحب لنفسك, أو أكثر.
وتقدمت آداب الجوارح, فلا بد منها, وكذلك آداب الأوقات, وهي تعميرها بالطاعات, فأوقات العبد أربعة كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: وقت الطاعة, ووقت المعصية, ووقت النعمة, ووقت البلية, فوقت الطاعة مقتضى الحق منك شهود المنة ووقت المعصية مقتضى الحق منك تحقيق التوبة, ووقت النعمة مقتضى الحق منك الشكر, ووقت البلية مقتضى الحق منك الصبر, فإذا قام العبد بهذه الآداب كلها حصل له الشرف التام والمنزلة الكبرى عند الخاص والعام.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: وكل نسبة لا أدب فيها فصاحبها كذاب, لأن عنوان الصدق وجود المراقبة, وإن كانت الغفلة مع حفظ الأصل غير قادحة, فقد قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: كل سوء أدب يثمر أدبا فليس بإساءة أدب, يعني من حيث الواقع, لا من حيث القصد, فتأمل ذلك, وبالله التوفيق.
وقوله: (منه استفاد القوم ما استفادوا) يعني من العلوم والمعارف والأنوار والأسرار والكرامات الحسية والمعنوية, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعض تفاصيل الأدب, فقال:
إذ نصحوا الأحداث والأصاغر *** وحفظوا السادات والأكابر
قلت: ذكر هنا أربعة أصناف من الناس, ممن يتأدب معهم إذا اجتمعوا معه, أولهم الأحداث: جمع حدث.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: هو من لا نبات له, وهم ثلاث: الحدث سنا, وهو الصغير الذي لم يميز حقائق الأمور, فله ولوع بكل ما يراه أو سمعه من مستحسن, فلا تؤمن غائلته في الانقلاب, ثم للنفوس ولوع به, من حيث الجمال الصوري, أو من حيث التعلق الروحاني, وقد يكون ذلك لا يشعر به الشخص, وقد يكون من حيث شعوره, ولصحبتهم آفات حاضرة من حيث شغل البال وحفظه, ثم من حيث اشتغال النفس بالميل له, ثم من حيث كمون الضرر في النفس بصحبته, فلا خير فيها, ولا بد من نصحه عند إقباله بتعريف الأصول, وترك الفضول.
قلت: الأصل في صحبته الجواز, وإنما لهذه العوارض التي ذكرها, فمن تحقق سلامته منها فلا يعترض عليه, وقد ذكره التجيبي, واستدل للجواز بخدمة أنس بن مالك رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن كان عليه الصلاة والسلام معصوما, فالأصل فيما يفعله الاقتداء حتى يرد ما يخصصه به.
القسم الثاني من أقسام الحدث: الحدث عقلا, وهو الذي لا يثبت على حقيقة, ولا ينتهج على طريقة: يتبع كل ناعق, ويتنسم كل ناشق, هذا أعظم ضررا من الذي قبله لفقدان الحقيقة فيه, وانتفاء قابليتها منه, ونصحه بتعريف الوجه الذي يقصده, وبيان الحق بوجه واضح حتى تقوم الحجة وتظهر المحجة, وأكثر ما يوجد هذا في فقراء البادية.
قلت: إن كان على الفطرة سهل علاجه وقربت هدايته.
القسم الثالث: الحدث دينا, وهو مع كل بما هم عليه, يميل مع كل ريح, ويسمى: الإمعة بكسر الهمزة وشدة الميم, ونصحه بدعواه إلى إفراد الوجهة, وتذكيره بما فيه ذلك من الضرر.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل واد من قلب ابن آدم شعب فمن تتبع قلبه تلك الشعب لم يبال الله في أي واد أهلكه).
الثاني: الأصاغر, والمراد بهم: صغار السن الذين لم يبلغوا سن الحداثة والتمكن فيها, ونصحهم بغرس الخير في قلوبهم, كما قال ابن أبى زيد في رسالته: (وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليها).
وقال السلمي رضي الله عنه: والصحبة مع الأصاغر بالشفقة والإرشاد والتأديب والحمل على ما يوجبه حكم المذهب, ويدلهم على ما فيه صلاحهم, لا على ما فيه مرادهم, وعلى ما يفيدهم لا على ما يحبونه, ويزجرهم عما لا يعنيهم.
الثالث السادات: والمراد بهم: العباد, والزهاد, والصالحون, والعلماء العاملون, والمريدون السالكون, الذين لم يبلغوا مرتبة المشيخة, ونصح الأول بدلالته على الإخلاص وإسقاط الحظوظ النفسانية والروحانية, ونصح الثاني بتصحيح النية وإفراد الوجهة مع ما نصح به الأول, ونصح الثالث بتحقيق التوبة والاستقامة, ونصح الرابع بتحقيق الإخلاص وتوفير الصبر والحلم والتواضع, ونصح الخامس بالغيبة عن السوى, أو بإسقاط الهوى ومحبة المولى, وحفظهم بالتعظيم والتوقير والاحتشام, وبإعطاء الرتبة حقها من كل وجه, ولا يستحقر أحدا أقامه الله في مقام من المقامات كيفما كان.
قال في الحكم: إذا رأيت عبدا أقامه الله بوجود الأوراد, وأدامه عليه مع طول الأمداد, فلا تستحقرن ما منحه مولاه, لأنك لم تر عليه سيما العارفين ولا بهجة المحبين فلولا وارد ما كان ورد.
وقال أيضا: قوم أقامهم الحق لخدمته, وقوم اختصهم بمحبته, {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك, وما كان عطاء ربك محظورا}.
الرابع: الأكابر, والمراد بهم المشايخ, وحفظهم بثلاثة أمور: الأول: اتباع ما رسموه, وإن لم يفهم معناه, فقد قالوا: (خطأ الشيخ أحسن من صواب المريد) فإن بان غيه توقف من غير اعتراض حتى يظهر أمره.
الثاني: عدم البحث عما جاؤوا به إلا من حيث التفهم, فإن من قال لأستاذه: لِمَ لا يفلح أبدا.
الثالث: موالاة من والاهم ومعاداة من عاداهم, ما لم يكن له مانع شرعي, أو يجره إلى منكر.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: آداب الفقير المتجرد أربعة: الحرمة للأكابر, والرحمة للأصاغر, والإنصاف من نفسه, وعدم الانتصار لها.
ثم ذكر آدابهم في الكلام فقال:
واجتنبوا ما يؤلم القلوب ...
قلت: هذا عام مع جميع المسلمين, فلا يتكلم مع مسلم بما يوجعه في قلبه, ولو كان نصحا, فقد قال تعالى: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}.
فالوعظ إنما ينفع إذا كان على وجه الملاطفة والسياسة, ويتأكد ترك ما يؤلم مع الزوجة والأهل, وكذلك مع الأخوان, لان جبر القلوب في جبر القلوب, وكسر القلوب في كسر القلوب, فمن جبر قلب عبد بإدخال السرور عليه أو هداية إليه: جبر الله قلبه, ومن كسر قلب عبد بإدخال الحزن عليه أو تنفيره صيّن: كسر الله قلبه, ومن أراد جبر قلوب عباد الله فليغض عن مساويهم, وليسكت عن عيوبهم, ويرحم الله القائل:
إذا شئت أن تحيا ودينك سالم *** وجاهك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فعندك عورات, وللناس ألسن
وإن أبصرت عيناك عيبا فقل لها *** أيا عين لا تنظري فللناس أعين
وعاشر بمعروف وجانب من اعتدى *** وفارق, ولكن بالتي هي أحسن
وقال الشيخ زروق: فهذه الأبيات جامعة لجميع ما يؤلم القلوب بطريق الاجتناب, فمن عمل عليها سلم من هذه الآفات التي أصلها كلها التجسس عن أخبار الناس, وسوء الظن بهم, وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينجو منها ابن آدم: الحسد, والطيرة, والنظر, فإذا حسدت فلا تبغ, وإذا ظننت فلا تحقق, وإذا تطيرت فأمض).
ومن خلقه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان لا يواجه أحدا بما يكره, إلا أن تنتهك حرمات الله).
ثم ذكر آدابهم في العمل فقال:
... *** وابتدروا الواجب والمندوب
قلت: أشار بذلك إلى كمال عبوديتهم, وأنهم يتبادرون إلى حقوق مولاهم: واجبة كانت أو مندوبة, امتثالا لقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض} على اختلاف قصدهم.
فمنهم من يقصد الثواب والنجاة من العقاب عاجلا وآجلا, وهم العوام منهم.
ومنهم من يقصد: تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية, وهم الخواص, أو خواص الخواص, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر آدابهم مع الأشياخ والإخوان, فقال:
وخدموا الشيوخ والإخوانا *** وبذلوا النفوس والأبدانا
قلت: خدمة الشيوخ قربة عظيمة ومنقبة جسيمة, وهي سبب الفوز بالوصول إلى معرفة الحق تعالى, ونيل درجات المقربين السابقين.
وفي ذلك يقول سيدي عبد الوارث رضي الله عنه: خدمة الرجال سبب الوصال إلى مولى الموالي.
وقال سيدي عبد الله الهبطي رضي الله عنه:
إن كان الخديم ظنه جميل *** دل على فلاحه دليل
أهل نفسه لخدمة الرجال *** لكي ينال من حبيبه الوصال
غيره ذل المحب في طلب القرب *** عن عزيز عند أهل الحب
وقال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: الصحبة مع الأستاذ باتباع أمره ونهيه, وهي في الحقيقة خدمة لا صحبة.
قيل لأبى منصور المغربي: كم صحبت أبا عثمان؟ فقال: خدمته وما صحبته, يعني أن صحبة الصغير للكبير تسمى خدمة, لا صحبة.
ثم قال: والقيام بخدمة أستاذه واجب, والصبر تحت حكمه, وترك مخالفته, ظاهرا وباطنا, وقبول قوله والرجوع إليه في جميع ما يعرض له, والتبرك به واستماع كلامه, وتعظيم حرمته, ومجانبة الإنكار عليه في شيء من أموره, سرا وجهرا, قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الآية.
سأل بعض أصحاب الجنيد الجنيد عن مسألة فأجابه, فعارضه في ذلك, فقال الجنيد: فإن لم تؤمنوا فاعتزلوا.
ويكون في صحبته كالصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم, تأديبهم بآداب القرآن في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وقوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} الآية, وقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} وما أشبه ذلك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته}.
قلت: والحديث قال ابن الجوزي: (إنه موضوع) والله تعالى أعلم.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: خدمة الشيوخ أمر زائد على تعظيمهم.
وأما خدمة الأخوان, فهي إعانة على ما يعرض له من أمور دينية أو دنياوية بنفسه أو بماله أو بجاهه أو بما يقدر عليه.
قال السلمي رضي الله عنه: رأيت جدي إسماعيل في النوم يقول لي: ألست تعلم شيئا من العلوم؟ فقلت: ربما أعلم شيئا, فقال: أليس سئلت أمس عن الاعتقاد في خدمة الفقراء؟ فقلت: نعم, فقال: كتبت ما كتبت ولست بمحتاج إليه, إنما هي ثلاث كلمات, وهي: أن تخدم من فوقك بالحرمة, وأقرانك بالنصيحة, ومن دونك بالشفقة, وانتبهت.
وقال في آداب صحبتهم ما نصه: والصحبة مع الأقران بالبشر والانبساط والموافقة وبذل المعروف والإحسان, والكون معهم على حكم الوقت.
حكي أن العباس ابن عطاء مد رجليه بين يدي أصحابه, وقال: ترك الأدب مع أهل الأدب أدب.
وقال الجنيد رضي الله عنه: إذا صحت المودة سقطت شروط الأدب.
روي عنه صلى الله عليه وسلم انه كان عنده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, فدخل عثمان فغطى ركبتيه, وقال: (ألا أستحيي ممن تستحي منه الملائكة) فحشمه عثمان وإن عظمت فالحالة التي بينه صلى الله عليه وسلم وبينهما: يعني أبا بكر وعمر, أصفى, ثم قال: ولا يداهنهم فيما يخالف المذهب.
وقد قال رويم: ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم, ويخضع عند الحق لقائله بالقبول.
روي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كان من دار العباس بن عبد المطلب إلى الطريق بين الصفا والمروة, فقال له العباس: قلعت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بيده؟ فقال: إذن لا يرده إلى مكانه غيرك, ولا يكون السلم غير عاتق عمر, فقام على عاتقه, فرده إلى موضعه, رضي الله عنهما, انتهى.
وقوله: (وبذلوا النفوس) الخ, والبذل هو الخدمة والمهنة, يقال: ثوب مبتذل, أي مهان بالخدمة, يعني أنهم بذلوا نفوسهم وأهانوها في خدمة الشيوخ والإخوان, فنالوا غاية العرفان, وحازوا أقصى مقام الإحسان, نفعنا الله بهم وخرطنا في سلكهم, آمين, ثم ذكر آدابهم في العلم, فقال:
وأنصتوا عند المذاكرات *** واحترموا الماضي معا والآت
وسألوا الشيوخ عما جهلوا *** ووقفوا من دون ما لم يصلوا
وعملوا بكل ما قد علموا *** وآثروا واغتفروا واحتشموا
قلت: أما الإنصات عند المذاكرة فلأنه يدل على كمال العقل والرزانة, فقد قالوا: من كمل عقله قل كلامه, ومن قل عقله كثر كلامه, وأيضا الكلام إنما يفهم بتمامه, فإذا تم الكلام تكلم بما عنده من غير ملاججة ولا خصام, ولا ينبغي السكوت بالكلية إذ لا يعرف الشيخ حاله ولا مقامه إلا بكلامه.
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه: تعلم المذاكرة كتعلم الرماية, فلا بد أن يرموا الإشارة, فتارة أمامها وتارة قدامها, حتى يصادفها, أو كلام هذا معناه.
وأما احترام الماضي فالمراد من تقدم من الصحابة والتابعين والأولياء والصالحين والعلماء العاملين, واحترامهم ألا يذكروا إلا بالإحسان وأن يلتمس لهم أحسن المذاهب.
ويرحم الله النووي لما سئل عن ابن العربي الحاتمي: فقال: (الكلام كلام صوفي) {تلك أمة قد خلت, لها ما كسبت ولكم ما كسبتم, ولا تسألون عما كانوا يعملون}.
ومن احترامهم الاستغفار والترضي عنهم, قال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان}.
وأما احترام الآتي, فمعناه إلا يقطع المادة ويحجر القدرة, فيقول: انقطعت الأولياء ولم يبق أحد, وانقطعت التربية ولم يبق من يصلح لها, أو كان الناس وليس هذا زمانهم أو نحو ذلك من سوء الظن بالله وبعباده.
وأما (سؤال الشيوخ عما جهلوا, (فلأن طلب العلم واجب على كل مسلم) وهو معلوم من الدين بالضرورة, ووقع الإجماع على أنه لا يحل لامرئ أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, وإنما يسئلون عما يحتاجون إليه في الحال من عمل أو حال أو مقام دون ما يتعلق بالمستقبل من المقامات, وهو معنى قوله: (ووقفوا من دون ما لم يصلوا) يعني دون الذي لم يدركوه بالمنازلة والذوق, فلا يسئلون عنه, لأنه لا تدركه عقولهم, وإن أدركته اتصلت به على غير وجه التحقق, فكان ضرره أكثر من نفعه.
وأما عملهم بكل ما علموا, فلأن العمل نتيجة العلم, فعلم بلا عمل وسيلة بلا غاية, وعمل بلا علم جناية.
وفي الحديث: (مثل العالم الذي لا يعمل, كالشمعة: تحرق نفسها وتضيء على غيرها).
ولأن (العلم يهتف بالعمل فان وجده وإلا ارتحل) و (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم).
فالعلم إذا أيد بالعمل نهض, ثم أنتج نورا تاما, ينتج ذلك النور حكمه, فيكون كل شيء من صاحبه علما وحكمة.
وقوله: (وآثروا) يعني أنهم آثروا على أنفسهم في الكلام, فيقدمون أكبرهم علما أو سنا, ويؤثرون أيضا على أنفسهم في صدور المجالس والمحافل, وكل ما فيه تعظيم.
وقوله: (اغتفروا) أي سامحوا وعفوا عن جفوة الإخوان الذين لم يتهذبوا, وصبروا على غلظتهم في المذاكرة وغيرها.
وقوله: (واحتشموا) أي: تركوا المنازعة والمخاصمة والملاججة بالغضب, لأن ذلك يؤدي إلى الشرور والعداوة والحقد, فتخرج المذاكرة حينئذ إلى المجادلة والمراء.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة, ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في أسفل الجنة).
ثم ذكر آدابهم في المعاشرة فقال:
واحتكموا بالعدل والإنصاف *** فوردوا كل معين صاف
قلت: أشار رحمه الله إلى أن الفقراء لا يداهن بعضهم بعضا في الحق, ولا ينافق بعضهم بعضا, بل يأتمرون بينهم بالمعروف ويتناهون عن المنكر, فيحكمون بالعدل على بعضهم بعضا, وعلى أنفسهم, ومن توجه عليه حق من الحقوق أنصف وأذعن وانقاد للحق, ولا يتعصب ولا يتحامى حمية الجاهلية, وحقيقة العدل هو: تنفيذ الحق من غير زيادة عليه ولا نقصان منه, والإنصاف هو الاعتراف به من غير توقف, ويقال الإنصاف من شيم الأشراف.
وقال أبو العباس بن العريف رحمه الله: لا بد لطالب العلم الحقيقي من معرفة الإنصاف ولزومه بالأوصاف.
قلت: ولا بد أيضا للعالم من التحقق بالإنصاف ليرجع للحق أينما ظهر.
وقد قالوا: (إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله).
وكان الشيخ عبد العزيز المهدي رحمه الله: إذا سئل عن شيء لا يدريه يقول: لا أدري, وإذا سئل عن شيء يدريه يقول: أحب أن أسمعه من غيري.
قال الشيخ زروق رضي الله عنه: ومن عجيب ما سمع في ذلك أن ابن الحاج حكى في مدخله: أنه لما طلب شيخه ابن أبى جمرة رضي الله عنه في أن يقرأ عليه, قال له: وتترك القضاة والأكابر الذين كنت تقرأ عليهم وتقرأ علي؟ فقال: عزمت, قال: استخر الله, قال: استخرت ثم جئت من الغد, فقال: عزمت, قلت: نعم, قال: لا يخطر على بالك أنك جلست بين يدي عالم ولا إلى عالم وأنت متعلم, ولكنا قوم اجتمعنا لطلب أحكام الله, فإن وجدنا الحق على لسان الصبي من صبيان المكتب اتبعناه.
قلت: فهذا الأمر الذي كان عليه سلف هذه الأمة, وإلا لما صحح مخالفة متأخرهم لمتقدمهم, والله أعلم.
ثم المنصف هو: الذي لا يبالي كان شيخا أو تلميذا أو عالما أو معلما, ظهر الحق على لسانه أو لسان غيره, لأن مقصوده دون ما سواه, وقليل ما هم.
قوله: (فوردوا كل معين صافي) الورود, هو : الشرب, والمعين هو: الماء الجاري, والصافي: لا تغيير فيه, يعني أن الصوفية لما حكموا بالعدل, واتصفوا بالإنصاف شربوا من العلوم أعذبها وأصفاها, لأن القلوب إذا صفت وتزكت وتطهرت من الدعوى والمكابرة أشرقت فيها أنوار العلوم, ولاحت فيها أسرار الفهوم, فأخذت من العلوم أصفاها, ومن الأنوار أبهاها, ومن الأسرار أسناها وأوفاها, فمن صفى صفى له, ومن كدر كدر عليه, فالعلم المكدر هو علم التقليد, أو علم الدليل, والعلم الصافي هو علم الأذواق, أو علم الشهود.
وفي هذا المعنى قال القطب بن مشيش رضي الله عنه: (وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة) والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شروط الأخوة وآدابها فقال:
وبعضهم كان لبعض عونا *** يلقى لديه دعة وأمنا
ينصره في الحق حيث كانا *** فإن أساء قارضه إحسانا
قلت: أشار رحمه الله إلى أن الصوفية رضي الله عنهم (أعني الفقراء) كانوا يتعاونون على البر والتقوى, لأن ذلك لمقصد جمعهم, فيعين أخاه بنفسه وماله وجاهه وعلمه وعمله وهمته وحاله ومناصحته وموداته ومصادقاته إلى غير ذلك, وما كان اجتماعهم إلا ليتعاونوا على ذكر الله وسائر أبواب الخير.
قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} وبذلك التعاون يصير كل واحد منهم في راحة وأمن من حاجته, وهذا معنى قوله: (يلقى لديه دعة وأمنا) أي يلقى عنده راحة فيما يعانيه عند توجه أخيه لذلك الأمر, أو عندما يعينه عليه, وأمنا من فوات مقاصده بسببه, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (مثل الأخوين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى) وكمثل البنيان يشد بعضه بعضا, وفي معناه قيل:
إن أخاك من كان معك *** ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك *** بدد فيك شمله ليجمعك
قوله: (ينصره في الحق) الخ أشار به إلى قوله صلى الله عليه وسلم:
(انصر أخاك ظالما أو مظلوما, قالوا: يا رسول الله, فإذا ننصره مظلوما, فكيف ننصره ظالما؟ قال: تأخذ على يديه فترده عن ظلمه).
وإنما كان رده عن الظلم نصرا, لأن نفسه ظالمة له, وهو مغلوب في يديها, فإذا رددته عن ظلمه فقد نصرته عليها, وإذا تركته يظلم فقد خذلته, وقد تقدم قول رويم لا يزال الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اصطلحوا قل دينهم.
وقوله: (فإن أساء قارضه إحسانا) القرض هو السلف, أطلقه هنا على مطلق العطاء, أي فإن أساء فقير إلى أخيه في قول أو فعل سامحه, وبذل له إحسانا وعفوا, وامتثالا لقوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ومن يقتدى به {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم, وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}. أي ادفع السيئة بالتي هي أحسن, وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام في تفسير قوله تعالى خذ العفو الآية إن الله أمرني أن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني.
قلت: وقد رأيت للغزالي كلاما حسنا في آداب الأخوة وشروطها ذكره في الإحياء, فرأيت أن أذكره على وجه الاختصار لما فيه من الفوائد الغزار, قال رضي الله عنه:
(اعلم أن عقد الأخوان رابطة بين الشخصين, كعقد النكاح بين الزوجين, وكما يقتضى النكاح حقوقا يجب الوفاء بها, فكذلك عقد الأخوة, فلأخيك عليك حق في المال وفي النفس وفي اللسان وفي القلب, وبالعفو وبالدعاء.
ثم قال: وذلك يجمعه ثمانية حقوق:
الحق الأول: في المال بالمواساة, وذلك على ثلاث مراتب أدناها أن تنزله منزلة عبدك وخادمك, فتقوم بحاجته بفضلة مالك, فإذا سنحت له حاجة وعندك فضلة أعطيته ابتداء, فإن أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك, وترضى بمشاركته إياك في مالك, فتسمح له في مشارطته.
الثالثة وهي العليا: أن تؤثره على نفسك, وتقدم حاجته على حاجتك, وهي رتبة الصديقين ومنتهى درجة المتحابين.
ومنها: الإيثار بالنفس أيضا كما روى أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء, وهو المتوكل, فأمر بضرب رقابهم, وفيهم أبو الحسن النوري, فبادر إلى السياف ليكون أول مقتول, فقيل له في ذلك: فقال: أحببت أن أوثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة, فكان ذلك سبب نجاة جميعهم في حكاية طويلة.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات, والقيام بها قبل السؤال, وتقديمها على الحاجة الخاصة, وهذه أيضا لها درجات كالمواساة, فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال, ولكن مع البشاشة والاستبشار, وإظهار الفرح, وأوسطها أن تجعل حاجته كحاجتك, فتكون متفقدا لحاجته, غير غافل عن أحواله, كما لا تغفل عن أحوال نفسك, وتغنيه عن السؤال, وأعلاها أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك, وتؤثره على نفسك وأقربائك وأولادك.
كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلينا وأولادنا, لأن أهلينا يذكروننا الدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة.
الحق الثالث: على الإنسان بالسكوت, فيسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله, وإذا رآه في طريقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته, فربما يثقل عليه أو يحتاج إلى أن يكذب ويسكت عن أسراره, التي بثها إليه, فلا يبثها إلى غيره, ولا إلى أخص أصدقائه, ولا يكشف شيئا منها, ولو بعد القطيعة, ويسكت عن مماراته ومدافعته في كلامه.
الحق الرابع: على اللسان بالنطق, فيتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يجب أن يتفقده فيها, كالسؤال عن عارض عرض له, وأظهر شغل القلب بسببه, فينبغي أن يظهر بلسانه كراهتها, والأحوال التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته في السرور بها, فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء, ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه, ويثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله عند من يريد هو الثناء عنده, وكذا على أولاده وأهله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وتصنيفه, وجميع ما يفرح به من غير كذب, ولا إفراط, ويبلغه ثناء من أثنى عليه, مع إظهار الفرح به, ويذب عنه في غيبته, مهما قصد بسوء أو تعرض بعرضه, بكلام صريح أو تعريض, وتعلمه مما علمك الله, وتنصحه.
الحق الخامس: العفو عن الزلات والهفوات, فإن كانت زلته في الدين بارتكاب معصية فليتلطف في نصحه, فان بقي مصرا فقد اختلف الصحابة في ذلك, فذهب أبو ذر إلى مقاطعته, وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته, وذهب أبو الدرداء وجماعة إلى خلاف ذلك, وقال أبو الدرداء: إذا تغير أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك, فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى, وهذه ألطف وأفقه, وذلك لما في هذه الطريق من الرفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة, وأيضا للأخوة عقد ينزل منزلة القرابة, فإذا انعقدت وجب الوفاء بها, ومن الوفاء ألا يهمله أيام حاجته وفقره, وفقر الدين أشد من فقر المال.
ثم قال: والفاجر إذا صحب تقيا وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب, ويستحي من الإصرار, بل الكسلان يصحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه, وإن كانت زلته في حقك, فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب.
الحق السادس: الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يحب لنفسه وأهله.
الحق السابع: الوفاء والإخلاص, ومعنى الوفاء: الثبات على الحب, وأدامته إلى الممات معه, وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه.
الحق الثامن: التخفيف, وترك التكليف والتكلف, فلا تكلف أخاك ما يشق عليه, بل تروح سره عن مهماتك وحاجاتك, وترفهه عن أن تحمله شيئا من أعبائك, ولا تستمد من منه مال وجاه, ولا تكلفه التواضع لك والتفقد والقيام بحقوقك, بل ما تقصد بمحبته إلا الله تعالى.
انتهى المراد منه ببعض اختصار.
ثم ذكر بعض ما يجتنب فعله فقال:
وليس حط الرأس من آدابه *** بل الصواب كان في اجتنابه
بل هو مبني على القصاص *** لمن أراد حسبه الخلاص
وليس في قيام الاستغفار *** أصل صحيح واصطلاح جار
قلت: أما حط الرأس, فهو أن الفقير إذا أساء الأدب مع أحد من الفقراء أو غيرهم يأتي إليه ويحط رأسه بين يديه, ليؤدبه أو يقتص منه, أو يسمح له, وهذا أمر لم يرد في الشريعة, ولا جرى به عمل في الطريقة, فالصواب اجتنابه, لأن ذلك كان عند من قال مبنيا على القصاص ليتخلص المجني عليه من الجاني, فهو من باب التمكين من القصاص, وهو يتأتى بغير حط الرأس, فلا حاجة إلى ابتداع هذا الحط, وقد مكن عليه الصلاة والسلام عكاشة من القصاص, ولم يكن فيه شيء زائد على التمكين من القصاص لمن أراد أن يحتسب لله بخلاص نفسه في الدنيا قبل الآخرة.
وأما قيام الاستغفار, فهو أن الفقير إذا أساء في حق الفقراء أو غيرهم, وأرادته التوبة والاستغفار قام على رؤوس الفقراء معترفا بذنبه ومظهرا للاستغفار, ومعتذرا مما صنع, وهذه الحالة لم يجهر بها عمل فقراء المغرب, ولا مستند لها من السنة, فتركها أولى, إلا لضرورة, وهذا خلاف ما ذكره أبو مدين بقوله:
وحط رأسك واستغفر بلا سبب *** وقم على قدم الإنصاف معتذرا
فلعله لم يصحبه عمل بعده, وأراد به المبالغة في الاعتذار, والله تعالى أعلم.
ثم أجمل ما بقي من الآداب بقوله:
والقصد من هذا الطريق الأدب *** في كل حال منه: هذا المذهب
قلت: أشار رحمه الله إلى أن الطريق مبنية على الآداب, فمن لا أدب له لا طريق له, ومن أساء الأدب مع الأحباب طرد إلى الباب, ومن أساء الأدب في الباب, طرد إلى سياسة الدواب.
وقال بعضهم: اجعل عملك ملحا وأدبك دقيقا, وقد تقدم قول أبي حفص: التصوف كله آداب إلخ.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: أربعة آداب إذا خلا الفقير المتسبب منها فلا تعبأن به وإن كان أعلم البرية: مجانبة الظلمة, وإيثار أهل الآخرة, ومواساة ذوي الفاقة, ومواظبة الخمس في الجماعة.
وأربعة آداب إذا خلا الفقير المتجرد منها. فاجعلوه والتراب سواء: الرحمة للأصاغر والحرمة للأكابر, والإنصاف من نفسه, وترك الانتصار لها.
وقال محي الدين بن العربي رضي الله عنه: أربعة من حازها فقد حاز الخير كله: تعظيم حرمات المسلمين, وخدمة الفقراء, والإنصاف من نفسه, وترك الانتصار لها.
وباب الأدب باب كبير قد استوفى جله السلمي والغزالي في الإحياء, وبداية الهداية, ومداره على ما تقدم.
والضمير في (منه) يعود على الطريق, أي: والقصد من هذا الطريق الأدب في كل حال من أحواله, هذا هو مذهبهم الذي تمسكوا به فوصلوا, وبالله التوفيق, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.