حكم السماع
وللأنام في السماع خوض *** لكن لهذا الحزب فيه روض
قال العراقيون بالتحريم *** قال الحجازيون بالتسليم
قلت: الخوض في الأصل هو الدخول في الماء, ولما كان الغالب على الماء التغير بالخوض فيه, صار يطلق على الدخول في الأمور المشكلة الملتبسة لكثرة الخوض فيها, والروض معلوم, يجمع على رياض, وهو مكان النزهة والفرجة.
يقول رحمه الله: للناس في السماع خوض كبير في منعه وجوازه, لكن لهذا الحزب (وهي جماعة الصوفية) التي هي حزب الله نزهة وخمرة يجدونها في قلوبهم وأسرارهم, ولذلك لما سئل الجنيد عن السماع قال: كل ما يجمع القلب بالله فهو جائز, أو ما هذا معناه.
ثم ذكر الخلاف, فأخبر بأن العراقيين قالوا بالتحريم, والمراد بهم الحنفية ومن تبعهم, وأهل الحجاز قالوا بالتسليم أي الإباحة أو الوقف, والمراد بهم مالك والشافعي ومن تبعهم فقد روى أبو معصب أن مالكا سئل عن السماع فقال: لم يبلغني فيه شيء إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرونه, ولا يقعدون عنه, ولا ينكره إلا غبي جاهل, أو ناسك عراقي غليظ الطبع.
قلت: لا يشك عاقل أن الأصل في السماع هو الجواز, بدليل قضية الجواري اللاتي كن يغنين ويضربن بالدف يوم العيد, والرسول عليه الصلاة والسلام حاضر, وهي البخاري وغيره.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه:
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية تسمعني فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على حالها, ثم دخل عمر ففرت, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ما يضحكك يا رسول الله, فحدثه فقال: لا أخرج حتى أسمع مما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأمرها فأسمعته.
قلت: وذكره التجيبي أيضا بهذا اللفظ, ثم قال السلمي:
وسئل ذو النون عن السماع, فقال: وارد حق يزعج القلوب إلى الحق. فمن أصغى إليه بحق تحقق, ومن أصغى إليه بنفس تزندق.
قال السري: تطرب قلوب المحبين إلى السماع وتخاف قلوب التائبين, وتكتاب قلوب المشتاقين.
وقيل: مثل السماع مثل الغيث إذا وقع على الأرض المجدبة فتصبح مخضرة, كذلك القلوب الزكية تظهر مكنون فوائدها عند السماع, وقيل يحرك ما ينطوي عليه القلب من السرور والحزن, والرجا والشوق, فربما يخرجه إلى البكاء, وربما يخرجه إلى الطرب.
وقيل: السماع فيه حظ لكل عضو, فربما يبكي وربما يصرخ, وربما يصعق وربما يرقص, وربما يغمى عليه.
وقيل: أهل السماع ثلاثة: تائب, وصادق, ومستقيم.
وقيل: المستمعون ثلاثة: مستمع بربه, ومستمع بقلبه, ومستمع بنفسه.
وقيل: يحتاج المستمع إلى ثلاثة: دقة, ورقة, وحرقة مع فناء الطبع ودخول الحقائق, ولا يصح السماع إلا لمن فنيت حظوظه, وبقيت حقوقه وخمدت بشريته, ثم قال: فكذلك السماع يؤثر على مقدار صفاء الباطن وقوة الوارد.
قال بعض المشايخ: لا يصح السماع إلا لمن كان قلبه حيا ونفسه ميتة, فأما من كان نفسه حية وقلبه ميتا, فلا.
حكى عن بعض الأبدال أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تقول في السماع الذي عليه أصحابنا, فقال: هو الصفاء الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء, انتهى المراد منه.
وقد أشبع الكلام فيه ابن ليون التجيبي في الإنالة, قال فيها: فاستماع الشعر لا ينكره إلا جاهل بالسنة, ثم قال: وقال صالح بن أحمد بن حنبل: إنه رأى أباه يستمع من جاره غناء كان في بعض ديار جيرانه, ثم قال: وعن أنس كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام, وهو نصف يوم, ففرح فقال: أفيكم من ينشدنا, فقال بدري:
نعم يا رسول الله, فقال: هات, فأنشد البدري يقول:
قد لسعت حية الهوى كبدي *** فلا طبيب لها ولا راق
إلا الحبيب الذي قد شغفت به *** فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد عليه السلام وتواجد أصحابه معه, حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فلما فرغوا أوى كل واحد إلى مكانه فقال معاوية ما أحسن لعبكم يا رسول الله, فقال: مه مه يا معاوية ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب, ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة, وذكره المقدسي والسهروردي, وتكلم الناس في هذا الحديث.
قلت: والتحقيق في السماع هو التفصيل فأما أهل الحقائق فلا شك في جوازه لهم. أو استحبابه على ما يأتي, ومستندهم ما تقدم, وأما أهل الشرائع فإن خلا المكان من النساء أو الشبان فهو حرام سدا للذريعة, والله تعالى أعلم. وإلى هذا التفصيل أشار بقوله فقال:
وإن للشيوخ فيه فنا *** إذ جعلوه للطريق ركنا
وإنما أبيح للزهاد *** وندبه إلى الشيوخ باد
وهو على العوام كالحرام *** عند الشيوخ الجلة الأعلام
قلت: أشار رحمه الله إلى أن السماع فيه للشيوخ العارفين فنون, وزيادات ومواجيد, وأحوال وواردات, فلذلك جعلوه ركنا يأوون إليه, ولا يعتمدون عليه, لأنه رخصة الضعفاء منهم, كما يأتي, وأما الأقوياء فلا يحتاجون إليه, وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن السماع: أمباح هو؟ فقال: كل ما يجمع العبد على ربه فهو مباح, وقد تقدم, والتحرير: هو التفصيل, كما ذكره الناظم, فقسم مباح, وقسم مندوب, وقسم حرام, فهو للزهاد مباح, لأن نفوسهم ماتت عن الشهوات والمستلذات, فلا ضرر لهم فيه حتى يحرم, ولا نفع لهم فيه حتى يندب, إذ لم يبلغوا رتبة التحقيق والذوق, وللشيوخ العارفين مندوب, لأنه يثير فيهم الوجد والوارد حتى ينشر ذلك في عوالم الأجساد, وتتسع ميادين الحضرة, فيكون للحضار منها نصيب, لأن من تحقق بحالة لم يخل حاضروه منها, وكل ما أفضى إلى الكمال فهو كامل, وعلى العوام حرام, أو كالحرام, لأنه ينشر فيهم الشهوات والمعاصي, ويحرك عليهم الطباع الرديئة والعوائد الدنيئة, فإذا انتفت هذه العلل كان مباحا, إلا أن حضره أهل الفساد, فيمنع مطلقا سدا للذرائع, وإنما حرم على العوام لأن الغنا مرقاة الزنا, وأنه ينبت النفاق في القلب.
وقالوا أيضا: السماع راح, تشربه الأرواح, بكؤوس الآدان, على مغاني الألحان, ولكل امرئ ما نوى (ماء زمزم لما شرب له) وهذا وما سمع له.
وقالوا أيضا: من سمع بتزندق تزندق, ومن سمع بتحقق تحقق, وإذا ذكر الهوى فلكل امرئ ما نوى.
وكان بعضهم يقول: أنتم غنوا كما تحبون, ونحن نسمع كما نحب, وبالله التوفيق.
ثم ذكر نتائجه السنية والدنية فقال:
وفيه كان ميلق الأحوال *** كيما يبين سافل وعال
قلت: الميلق في اللغة هو, السرعة, وفرس ميلق, أي: سريع (قاله في القاموس) يعني: أن السماع سرعة ظهور الأحوال الزكية أو الدنية, فمن كان قلبه مع ربه حركه سريعا إلى حضرة قدسه, ومن كان قلبه مع حظه وهواه حركة إلى حظوظه ومناه, لأجل ذلك يظهر من سقط في أسفل سافلين, ومن ارتفع في أعلى عليين.
ثم أشار إلى نتيجة أخرى فقال:
وهو صراط عندهم محدود *** يعبره الواجد والفقيد
قلت: السماع عند الصوفية طريق محدود, أي معلوم بحدوده, أي معلوم بحدوده ورسومه, (يعبره): أي يسلكه الواجد لحاله, وهو الذي حجب بالجمع عن الفرق, أو الذي لم يحجبه جمعه عن فرقه ولا فرقه عن جمعه, ويسلكه أيضا الفاقد لحاله, وهو الذي حجب بالفرق عن الجمع, فيظهر على كل واحد ما كن في سره, فالواجد يزيده في حضرة الحق عشقا ووجدا, والفاقد يزيده عن ربه طردا وبعدا, فكل إناء بالذي فيه يرشح.
قال الجنيد رضي الله عنه: كل مريد رأيته يميل إلى السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة.
وقال أيضا: السماع صراط محدود, عليه يعبر صاحب يقين وجود, وصاحب شك وجحود إما أن يرفع سالكه إلى أعلى عليين, أو يكبكبه في أسفل السافلين {فكبكبوا فيها هم والغاوون}. {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون}.
والى هذا أشار الناظم بقوله:
فعابر يحله عليين *** وآخر يحطه في سجين
قلت: فالعابر الذي يحله في عليين هو: من تحقق بالوحدة, وفهم الإشارة, وذاق حلاوة الخمرة, فلا يزال يسمع بالله, ومن الله حتى يغيب عن حسه, ويغرق في حضرة قدسه, فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين, والآخر الذي يحطه في سجين هو الذي يسمع بنفسه, ويتذكر حظوظه وهواه الذي كان مشغولا به سره ونجواه, فلا يزال يزعجه الشيطان حتى يلقيه في بحر الردى والهوان, فينهض في طلب المعاصي والطغيان فأولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الرحمن أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون, فيكتب مع الفجار {كلا إن كتب الفجار لفي سجين} نسأل لله العصمة بمنه آمين.
ثم ذكر نتيجة أخرى فقال:
وهو سرور ساعة يزول *** نعم, وسم ساعة قتول
قلت السماع إنما هو فرح ساعة, ثم يذهب, فمن كان فرحه بالله اجتنى ثمرته وجناه, وفاز بمعرفة ربه ورضاه, ومن كان فرحه بهواه فقد باء بغضب من الله, وهو أيضا سم قاتل لمن حركه إلى الهوى والباطل.
قال السلمي رحمه الله: بلغني أن أبا عمرو بن نجيد قال لأبي القاسم النصراباذي: بلغني أنك مولع بالسماع؟ قال: نعم هو خير من أن نقعد فنغتاب, فقال: هيهات يا أبا القاسم زلة في السماع شر من كذا وكذا سنة تغتاب.
قلت: ولعله من جهة الاقتداء به, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر نتيجة أخرى من نتائج السماع, فقال:
وهو قياس العقل نقاش القلوب *** إذ ينزل الحال به ثم يؤوب
قلت: السماع معيار العقول في الخير والشر, فيعرف به الكامل في الخير من الناقص فيه والكامل في الشر من المتوسط فيه.
أما الكامل في الخير فهو المتمكن في المعرفة الراسخ فيها, فهذا كالجبل لا يحركه سماع ولا تهزه ريح: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب}.
قيل للجنيد: مالك كنت تتحرك في السماع, والآن لا يظهر عليك شيء؟ فقرأ الآية وترى الجبال إلى آخرها.
وأما الناقص في الخير فهو السائر, فهذا إذا سمع تحرك وتواجد, ورقص وشطح, فهذا مغلوب للحال, لكنه في أثر الرجال, فمن دام سيره ظهر خيره, ووصل إلى ما وصل إليه غيره.
وأما الكامل في الشر, فهو المنهمك في الغفلة, إذا سمع هاج شره, وغلبته نفسه, وبطشت في الحين إلى ما تقدر عليه من الفساد.
وأما المتوسط في الشر, فتحركه نفسه, ويغلبها في الوقت, فإذا قامت جمحت إلى طلب ما تحركت إليه, إلا أن يعصمه الله بحفظه.
وهو أيضا (أي السماع) نقاش القلوب, فيخرج ما فيها من خير وشر, كمن ينقش على الماء فيخرجه, إن كان صافيا شرب, وإن كان متغيرا طرح.
وقوله: (إذ ينزل الحال به ثم يؤوب), هو تصوير النقش المذكور, لأن السماع ينقش عن ما فيه من الحال, إما رباني, أو شيطاني, أو نفساني, والجميع يزول ويذهب, فان كان ربانيا بقي أثره من الخشوع والطمأنينة والتواضع والزهد وحسن الخلق, وإن كان شيطانيا أو نفسانيا لم يبق بعده إلا القسوة والغلظة والحرص والطمع وغير ذلك من الأخلاق المذمومة.
وفي الحكم لابن عطاء الله: (لا تزكين واردا لا تعرف ثمرته, فليس المراد من السحابة الإمطار, وإنما المراد منها وجود الإثمار) وهذا مراد من قال: من لم يؤثر فيه السماع زيادة ما عنده فهو نقص في حقه, لأن الواردات لا تراد لذاتها, وإنما تراد لثمراتها, والله تعالى أعلم.
ثم شبه الحال الرباني بالمطر النازل في أصول الشجر كما تقدم في الحكم, فقال:
وآثاره في عرصات القلب *** كالوبل في الغصن القويم الرطب
قلت: العرصات: جمع عرصه, هو المكان الواسع الذي تغرس فيه الأشجار, كنى به هنا عن سعة القلوب الفارغة من الشواغل والشواغب, وأراد أن السماع يترك آثاره في قلوب العارفين المطهرة من دنس الهوى, الفارغة من حب السوى, كما يترك المطر الغزير آثاره في الغصن القويم الرطب, وهو الزهر أولا, والعقد ثانيا, والثمار ثالثا, فليس المراد من المطر نزوله, وإنما المراد ما ينشأ عنه من الثمار, والله تعالى أعلم.
ثم ذكر آدابه في الجملة, فقال:
ولا يجوز عنده التكلم *** ولا التلاهي, لا, ولا التبسم
قلت: إنما لا يجوز التكلم عنده, لأنه عند العارفين محل الوجد والخمرة والكلام يشوش القلب ويبعده من الحضرة, ويتلف عن الحقيقة, فالواجب تركه لمن أراد جبر قلبه, وعند غير العارفين رخصة, لأنه قريب من رتبة الباطل, فأقل شيء يرده إليه.
قال السلمي رضي الله عنه: والسكون مع حضور القلب وجمع الهم, والوقوف على أقوال المنشدين أولى من المداخلة, لأنه محل الاستكانة والتمكين, والهدوء والإنصات من آداب المستمعين, قال الله تعالى: {فلما حضروه قالوا أنصتوا} الآية, وقال: {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا}.
وأما التلاهي عنه, فانه يقتضي أنه لا ارب له فيه من جهة قلبه, وإنما مراده راحة نفسه, والفرجة والتلاهي يكون بالالتفات عنه بقلبه أو بدنه, شغلا بغيره.
وأما التبسم فيه, فإن فيه إساءة الأدب, فإن غلبه خرج, وإلا أُخرج وزجر.
قال السلمي رحمه الله: ولا يحضر مجلس السماع من يبتسم أو يتلاهى.
يحكى عن الشيخ أبي عبد الله بن خفيف أنه قال: حضرت مع شيخي أحمد بن يحيى السماع ببشران (اسم موضع) فاتفق فيها سماع أمم بموضع, فطاب وقت الشيخ وتواجد ودار, وكان في ضفة بحذائنا قوم من أبناء الدنيا, فتبسم واحد منهم. فأخذ الشيخ منارة كبيرة كانت هناك فرماه بها, فأصابت الجدار فانغرست أرجلها الثلاث في الحائط, وكان قد صلى ثلاثين سنة الصبح بوضوء العشاء.
ثم نهى عن حضور الأحداث فقال:
ويمنع الأحداث من حضوره *** وإن يكن ذاك فمن ظهوره
قلت: مما يتأكد في مجلس السماع منع الأحداث من حضوره, إما حدث السن وإما حدث الدين, أو العاقل, وقد تقدم تفسيرهم.
أما حدث السن فلما تحرك مشاهدتهم من الفتنة, لا سيما مع دواعي ذلك من الشعر والأوزان. والترنم بالأصوات الحسان, والنفس لها في هذا الميدان مجال عظيم ومكر كبير.
وأما حديث الدين أو العقل, فان حضور غير الجنس يمنع من المدد, وذلك مجرب في الذكر والمذاكرة, والسماع عند الصوفية ذكر قلبي, فإن ألجأت الضرورة إلى حضورهم فليكونوا صفا من خلف الناس خافضين أصواتهم, وهذا معنى قوله: وإن يكن ذاك فمن ظهوره, أي: يكن ذلك الحضور ولم يمكن التحرز منهم بوجه, فليكن حضورهم من ظهور السماع, أي من وراء ظهور المستمعين, والله تعالى أعلم.
قال السلمي رحمه الله: ولا رخصة للأحداث في القيام والتحرك أصلا, وأكثر المشايخ يكرهون حضورهم مجلس السماع, ولا يرخصون لهم فيه.
سمعت والدي رحمه الله يقول: دخلت بغداد زائرا لجعفر الخلدي, فوجدت أبا العباس النهاوندي عنده, وهو حدث, فكلما حضرنا دعوة فيها سماع أمر أبا العباس بالانصراف, ولم يأمره أن يقعد في مجلس السماع.
ثم نهى عن الرقص والتحرك فيه لغير المغلوب فقال:
والرقص فيه دون هجم الحال *** ليس على طريقة الرجال
وإن يكن يقوى على السكون *** فانه أسلم للظنون
قلت: الرقص والترقص هو الارتفاع والانخفاض, يعني أن الرقص في السماع والتحرك دون غلبة الحال, ليس هو طريق الكمال, بل الكمال هو السكون والوقار وخفض الصوت والاستماع, فإنه أسلم لسوء الظنون بمن يفعل ذلك, وإن كان صادقا إذ لا سلامة من الخلق, ثم اعلم أن الرقص وقع فيه اضطراب كبير بين الصوفية وعلماء الشريعة, والتحرير في المسألة أن نقول: (الأصل في الرقص هو الإباحة, إذ لم يرد نص عن الشارع فيه بتحريم ولا إباحة, بل ظواهر النصوص تقتضي الإباحة, وسيأتي ذكرها أن شاء الله, وأيضا الأصل في الأشياء هي الإباحة, وقيل الوقف حتى يأتي الحظر, ولم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقتضي التحريم, وإنما حرمته الأئمة لما قارنه من تعاطي أهل الفساد بجمع النساء والشبان وآلة اللهو والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما, فيتحصل في الرقص أنه على ثلاثة أقسام: قسم حرام, وقسم مباح, وقسم مطلوب.
فأما القسم الذي هو حرام, فهو رقص العوام بمحضر النساء والشبان, فهذا حرام لما يؤدي إليه من الفساد, وما يهيج من الطباع الدنية والنفوس الشيطانية, ويلتحق به ما خلا من ذلك, لكن قصد به التصنع والرياء وإظهار الحال, والتظاهر بما ليس فيه حقيقة, فهو حرام أيضا لما داخله من الرياء والتلبيس.
وعلى هذين القسمين يحمل كلام من أطلق التحريم, كصاحب (المعيار) و(النصيحة الكافية) وغيرهما.
وأما القسم المباح, فهو الذي يفعله الصالحون وأهل النسبة من غير وجد ولا تواجد, وإنما يفعلونه راحة لنفوسهم, وتنشيطا لقلوبهم بشرط الزمان والمكان والإخوان, خاليا من حضور ما تقدم من النساء والشبان, فهذا مباح إذ لا موجب للتحريم فيه, إذ علة التحريم هو ما تقدم, وهو خال من ذلك, وأما ما يقال: انه من فعل السامرية حين عبدوا العجل فعلى تقدير صحته فإنما حرم فعلهم لفساد قصدهم, لأنهم قصدوا بذلك تعظيم العجل أو الفرح به, وهذا كفر, ولو كان رقصهم خاليا من ذلك ما حرم عليهم.
وقد ثبت أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عن رقص بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال رسول الله: أشبهت خلقي وخلقي, وذكره السنوسي في (نصرة الفقير) وغيره.
وقال ابن ليون التجيبي ما نصه: وأما الرقص في المسجد ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
جاء جيش من الحبشة يزفون يوم عيد في المسجد, فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت كفي على منكبيه, فجعلت أنظر إلى لعبهم), قال ابن عيينة: والزفف الرقص, فثبت أن الرقص في أصله مباح, ولو كان حراما لذاته ما فعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما القسم المطلوب فهو: رقص الصوفية أهل الذوق والحال, إما وجدا أو تواجدا, وسواء كان ذلك في حضرة الذكر أو السماع, ولا شك أن دواء القلوب من الغفلة وجمعها بالله مطلوب بأي وجه أمكن, ما لم يكن بمحرم مجمع على تحريمه, فلا دواء فيه, وقد تقدم قول الجنيد لما سئل عن السماع, قال: كل ما يجمع العبد على ربه فهو مباح.
وقال الفاسي في (شرح الحصن) عن شيخ الإسلام السيوطي رحمه الله ما نصه: أقول وكيف ينكر الذكر قائما, وقد قال تعالى: {والذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم}.
وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) وإن انضاف إلى هذا القيام رقص ونحوه فلا إنكار عليهم, وذلك من لذة الشهود والمواجيد:
وقد روى في الحديث رقص جعفر بن أبي طالب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له: (أشبهت خلقي وخلقي) وذلك من لذة هذا الخطاب, ولم ينكر ذلك عليه النبي عليه الصلاة والسلام, فكان هذا أصلا في رقص الصوفية لما يذكرونه من لذة المواجيد.
وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر والسماع عن جماعة من أكابر الأئمة منهم شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام.
وهو نحو ما في (الإحياء) وزاد فيه حديث نظر عائشة رضي الله عنها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة وهم يرقصون, وقوله لها: (أتحبين أن تنظري إلى زفف الحبشة) والزفف الرقص انتهى.
وذكره ابن زكري في شرح النصيحة.
قلت: وقد تواتر النقل عن الصوفية قديما وحديثا شرقا وغربا أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله, ويقومون ويرقصون ولم يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم.
وقد رأيت بفاس بزاوية الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب, مع توفر العلماء, فلم ينكر أحد عليهم, وقد بلغني أن شيخنا شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة كان يحضر معهم في بعض الأحيان, فلا ينكر على الفقراء الرقص في حال ذكرهم إلا مقلد جامد, أو معاند جاحد, يرحم الله الشيخ زروقا رضي الله عنه في بعض شروحه على مقطعات الششتري لما تكلم على هذا المعنى, قال: وإنما أطلت الكلام هنا لوجهين:
أحدهما مخافة أن يغتر الغوغاء, ممن لا خلاق له بهؤلاء السادات فيتعاطونه في غير محله, فيقع في المقت.
ثم قال: والآخر أن يتبع قول الملحدين, أهل العقول الواهية, والأفئدة الخاوية, فيقدح في جملة طريقة أنتجها الصالحون من أولياء الله, وظهرت نتيجتها في كثير من عباد الله واشتملت نسبتها على رجال قاموا بأحكام الشريعة وآداب الحقيقة, وتعلقوا بأسماء رب العالمين, وتخلقوا بأخلاق سيد المرسلين, آثارهم حميدة, وملاقاتهم سعيدة, ترغب الملائكة في خلتهم, واشتاقت الأنبياء والرسل إلى رؤيتهم, كتاب الله مطرز بالثناء عليهم, وبشائر السنة كلها تشير إليهم, عند ذكرهم تتنزل الرحمة, وبسبب وجودهم تدفع النقمة, رغب في اللحوق بعسكرهم خليل رب العالمين حيث قال فيما أخبر الله عنه في كتابه المبين: {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين} وتبعه الصديق الأمين في ذلك, حيث قال: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} واستشهادنا في معرض الولاية بهاتين الآيتين اللتين سبقتا في مقام النبوة, إنما اقتبسنا الدليل على ذلك, وهذا من باب تناول الأعلى إلى الأدنى بالثناء عليه ليعرف غيره ببعض شواهد فضيلته كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
(اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين).
أي واجعل المساكين هم قرابتي المحدقون بي يوم المحشر, فقد عرف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين, وعظم جاههم عند الله ورسوله, لطلبه من الله أن يكونوا في كفالته, لا أنه في كفالتهم, فكذلك عرف الصديق بفضيلة أمة الإسلام, وخصوصا الصالحين منهم لا أنه طلب من الله اللحوق بعسكرهم لقصوره عن أدراك مقامهم, لكن مبالغة في التعريف بعظيم جاههم عند خالقهم, فعرف أولا بفضيلة الإسلام عموما, وعرف ثانيا بفضيلة الصالحين منهم خصوصا, ملأ الله قلوبنا من محبتهم, وسلك بنا سبيل سيرتهم وحشرنا في زمرتهم, اللهم آمين. انتهى كلامه رضي الله عنه.
ثم أشار إلى أن السماع إنما هو رخصة للضعفاء, فقال:
وليس يحتاج إلى السماع *** إلا أخو الضعف القصير الباع
قلت: أشار إلى أن السماع لا يحتاجه ويزيد به إلا من كان ضعيف الحال قصير الباع في المعرفة والشهود, وأما القوي المتمكن فلا يحتاج إليه.
قال السلمي رضي الله عنه: وقيل يحتاج إلى السماع من كان ضعيف الحال, فأما القوي فلا يحتاج إلى ذلك.
وقال الحصري, ما أدون حال من يحتاج إلى مزعج يزعجه, ولعمري ما تحتاج الثكلى (بالمثلثة) إلى نائحة, والثكلى هي: التي مات ولدها.
وقيل: هو (أي: السماع) لقوم كالغذاء, ولقوم كالدواء, ولقوم مروحة, كما قال تعالى: {قل هو للذين أمنوا هدى وشفاء}. الآية.
وقال في موضع آخر: (وسئل بعض الشيوخ عن شرب القلوب من السماع, وشرب الأرواح والنفوس) فقال: شرب القلوب الحكم, وشرب الأرواح النغم, وشرب النفوس ما يوافق طبعها من الحظوظ, ونعت الحسن والجمال.
ثم أشار إلى علامة الضعف, فقال:
والزعقات فيه والتمزيق *** ضعف, وهز الرأس والتصفيق
قلت: الزعق هو: الصياح والتمزيق هو: تخريق الثياب, وهز الرأس: تحريكه, والتصفيق الضرب بالكف يعني: أن الصراخ في السماع وتمزيق الثياب وتحريك الرأس والتصفيق باليد إنما يصدر من ضعيف الحال, الذي هو مغلوب للأحوال, وأما القوي المالك للأحوال, فلا يصدر منه شيء من ذلك.
قال السلمي رضي الله عنه: وليس من الأدب استدعاء الحال والتكلف للقيام, إلا من غلبه حال فيه, فينزعج أو يكون على سبيل مساعدة لصادق, أو مطايبة لخاطر من غير تساكر ولا إظهار حال, وترك ذلك أولى.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ فصعق رجل من جانب المسجد, فقال: (من هذا الملبس علينا ديننا, إن كان صادقا فقد شهر بنفسه وإن كان كاذبا محقه الله).
ثم قال: حكى أن شابا كان يخدم الجنيد, وكلما سمع شيئا زعق وتغير, فقال: إن ظهر فيك شيء بعد هذا فلا تصحبني, فكان يضبط نفسه, وربما كان يقطر من كل شعرة منه قطرة عرق حتى كان يوم من الأيام زعق زعقة خرجت منها روحه.
والزعقة من وجهين: أحدهما للتوجع, والأخرى للتطلع, زعقة التوجع من حيث الخوف والحزن, وهي نظيرة صيحة المصاب, وزعقة التطلع من المحبة والشوق والرجاء, وهي نظيرة صيحة المتطلعين للإهلاك إذا تحققوا ذلك, وهذا لا يكون إلا عند وجود غائب أو فقدان حاضر, ومثلها كمثل العطسة لا يدري كيف تجيء.
قلت: أما التمايل يمينا وشمالا فلا يدل على الضعف, وقد رأيت شيخنا يفعله عند السماع وهو من لذة التواجد, فلا يدل على الضعف, والله تعالى اعلم.
وقد ذكر ابن عرضون في (مقنعه) أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذكروا الله مال بعضهم على بعض كالشجرة في يوم الريح العاصف, أو ما هذا معناه, ثم أشار إلى أن السماع لم يكن عندهم مقصودا للاجتماع, بل حيث ما تيسر, فقال:
ولم يكن لأجله اجتماع *** ولا لدى غيبته انصداع
قلت: الانصداع هو الافتراق, يعني: أن القوم لم يكن اجتماعهم مقصودا للسماع, بحيث إذا وجد اجتمعوا وإذا غاب افترقوا, بل كانوا إذا اتفق اجتماعهم لأمر من الأمور, أو إذا دعاهم أحد إلى وليمة أو سرور استعملوه, لأنهم أغنياء عنه بحلاوة الذكر والمعرفة والله تعالى أعلم.
ثم ذكر انه لم يكن فيه آلة اللهو, فقال:
ولم يكن فيه مرأسنونا *** ولا طنابر ومسمعونا
وليس أيضا كان فيه طار *** ولا مزاهر ولا تنقار
والشمع والفرش والتكالف *** أحلف ما كانت يمين حالف
قلت: (المرأسنون) بفتح الميم هي الطائفة التي تجيب القوال بالدندنة ونغم الموسيقى, بحيث إذا فرغ القوال من الشعر أجابون بكلام اللهو والنغم المستلذة, وهو من شأن أهل اللهو, فالتشبه بهم هجنة, والطنابير: جمع طنبور, وهو شبيه بالعود في صورته, وقيل هو بنفسه والمسمعون المرصدون للغناء في الولائم, يسمعون الناس غناءهم ولهوهم, والطار معلوم, وهو ذو الشراشر, والمزهر هو المجلد من جهتين, والتنقار هو: فعل النقر, ويكون في نقر الأوتار المعلومة.
يقول رحمه الله: إن سماع القوم لم يكن فيه شيء مما ذكر, مما هو من آلات اللهو, ويلتحق بما ذكر: الرباب, والشبابة, والبندير, والزمارة, وغير ذلك مما يستعمله أهل اللهو فينبغي للفقير أن يجتنبها, وهذه مسألة خلافية, فقد رجح الغزالي في (الإحياء) جواز سماع هذه الأشياء, بشرط خلو المكان والإخوان والزمان, قيل: وهو مذهب الشافعي ورده بعضهم.
والحاصل أن العارف المحقق الذي غرق في عين بحر الوحدة حتى كان سمعه بالله ومن الله وبصره بالله والى الله, ووجده بالله ومن الله, لا يكدره شيء, فلا ينكر عليه شيء.
وقد قالوا إذا ثبتت عدالة المرء فليترك وما فعل.
وهذه مسألة خلافية لم يرد فيها نص من الشارع, والأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الحظر, وما حرم السماع حتى أخذه أهل اللهو, ونقلوه إلى لهوهم وقارنوه مع شرب الخمر والزنا, فحرم حينئذ, سدا للذريعة, والله تعالى اعلم.
وقد كان بعض علماء الحديث من أهل الحفظ والضبط يستعمل ضرب العود, فعيب عليه فحلف لا يحدث بحديث حتى يضرب العود, فأخبر به السلطان (قيل هارون الرشيد) فأرسل إليه وقال له: حدثني بحديث المخزومية, فقال أحضر العود, فقال له الملك: عود البخور؟ فقال: بل عود الطرب, فضحك الملك, ثم قال: من يحرم السماع من الفقهاء, فقال له: من طبع الله على قلبه, ثم قال له ذلك العالم: لقد حضرت وليمة بالمدينة, وفيها علماؤها, حتى لو سقط البيت لم يبق مغني بالمدينة, وأصغرهم مالك بن انس, فغنوا وهو بمزهره فغنوا وأنشدوا, (ذكره ابن عرفة في باب النكاح) نقلته بالمعنى.
وقوله: الشمع والفرش الخ. يعني أنهم لم يكونوا يتكلفون بالسماع حتى يحضروا الشموع الموقودة, والفرش الممهدة, والوسائد المزوقة, وإنما كانوا يحضرون له على حالة الفاقة, والابتذال, على ما يصادف الوقت والحال, وليس مراده أنها محرمة, وإنما مراده أن طريق القوم عدم التكلف, فإن صادف الحال أنها أعدت فلا يمتنعون منها, لأن الصوفي اتسعت دائرته, فلا يختار شيئا ولا يمتنع من شيء, بل ما أعطاه سيده أخذه بالقبول, إلا ما حرمته الشريعة المطهرة بنص صريح لا تأويل فيه, فهو حينئذ أولى بالأدب من غيره والله تعالى اعلم, ثم قال:
وأمروا فيه بغلق الباب *** وإنما ذاك للاجتناب
قلت: وإنما أمروا في حال السماع بغلق الباب لئلا يحضر معهم من يجتنب حضوره من الأحداث والعوام والنساء وغير ذلك مما لا يليق حضوره, لأن مجلس السماع إذا كان ربانيا هو كمجلس الذكر والمذاكرة, ومجلس الذكر والمذاكرة غذاء الأرواح ورضاع القلوب, فهي ترضع بعضها بعضا, فإذا حضر صاحب التخويض رضعت منه بعض القلوب ذلك التخويض, فربما يسري في الجماعة, فلا يجدون حلاوة الوجد, ولا لذة الخمرة, ولذلك قال الجنيد رضي الله عنه: المواكلة رضاعة فانظروا من تواكلوا, فيصدق بالحسي والمعنوي.
وقد عقد بعض الشيوخ حلقة الذكر في بيت مظلم فلم يجدوا قلوبهم, فقال لهم الشيخ ائتوني بالمصباح, فلما أتوا به وجدوا معهم طالبا من طلبة المدرسة, فأخرجوه فحينئذ وجدوا قلوبهم.
وحكا عن بعض أشياخنا (وأظنه سيدي محمد بن عبد الله) انه كان في مجلس المذاكرة فجلس معهم رجل عامي, فأزال الشيخ عنه ثوبا, وقال له: قم بع في السوق, فلما خرج قال له: خذ ثمنه ولا تعد, وسد الزاوية.
والحاصل: أن حضور غير الجنس مشوش مانع من زيادة المدد, والله تعالى أعلم.
ثم حرر الخلاف في السماع فقال:
وليس للقائل ما يقول *** في الشعر إذ سمعه الرسول
قلت: (سماع الشعر من غير ألحان ولا موسيقى لا نزاع فيه, لأنه سمعه عليه الصلاة والسلام وأجاز عليه ودعا لقائله, وإنما النزاع في الترنيم به).
وقوله: (بألحان وموسيقى) فمن كان طبعه جامدا لا يحركه شيء, لا لخير ولا لشر, كان في حقه مكروها إن شغله عن ذكر الله أو مباحا إن لم يشغله, ومن كان طبعه مائلا للهوى وحب الدنيا وعلم انه يحركه للفساد حرم عليه, ومن كان قلبه معمورا بمحبة مولاه, فانيا عما سواه, كلما سمع زاد به إلى مولاه, فهذا يستحب في حقه السماع.
هذا حاصل ما ذكره في (جل الرموز) حين تكلم على السماع.
فقال: السماع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منه ما هو حرام محض, وهو لأكثر الناس من الشبان, ومن غلبت عليهم شهواتهم, وملكهم حب الدنيا, وتكدرت بواطنهم, وفسدت مقاصدهم, فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب عليهم من الصفات المذمومة, سيما في زماننا هذا.
والقسم الثاني: منه مباح, وهو: من لاحظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن, واستدعاء السرور والفرح.
والقسم الثالث: مندوب, وهو: من غلب عليه حب الله تعالى, والشوق إليه, فلا يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة, وتضاعف الشوق إلى الله, واستدعاء الأحوال الشريفة والمقامات العلية, والكرامات السنية, والمواهب الإلهية.
قال الشيخ ابن ذكرى رحمه الله: فتبين من هذا انه لا نص فيه من الشارع, والذي تقتضيه قواعد الشريعة انقسامه إلى ما ذكر.
ثم ذكر أصل استعمال السماع فقال:
وإنما كان السماع قدما *** قصد المريد الشيخ يشكو السقما
وجاء هذا, ثم جاء هذا *** حتى استقلوا عنده أفذاذا
فبث كل ما به قد جاء *** فعرضوا من دائهم دواء
فعندما نشطت النفوس *** وزال عنها كسل وبوس
وطابت القلوب بالأسرار *** واستعملت نتائج الأفكار
ترنم الحادي ببيت شعر *** فاكتنفته غامضات الفكر
كل له مما استفاد شرب *** هذا له قشر وهذا لب
فإن تمادى وأتم الشعرا *** أبدوا من الشرح عليه سفرا
فهكذا كان سماع الناس *** فهل ترى به كذا من باس
قلت: القدم بكسر القاف معناه: القديم, وهو ظرف, أي في القديم, والسقم: المرض والأفذاذ: الجماعة المتفرقة, جمع فذ, وهو المنفرد, وبث شكواه: أودعها وأخبر بها, والنشاط خفة الأعضاء, والكسل ضده, والباس هو الضر والداء,، والأسرار: الأذواق والأحوال, ونتائج الأفكار: العلوم, والترنم: التغني, والحادي: القوال, واكتنف الشيء: أحاط به, فصار في كنفه, والغامض: الخفي, والشرب (بكسر الشين) النصيب من الماء, والقشر: ظاهر الشيء, واللب باطنه.
يقول رضي الله عنه: وإنما كان استعمال السماع في الزمان المتقدم عند قصد المريد الشيخ يشكوا إليه سقمه ومرضه الذي أصاب قلبه من غفلة أو فترة أو قسوة أو كسل أو طغيان أو غير ذلك من العيوب التي لا تحصى, ثم توالى المجيء إلى الشيخ: هذا بعد هذا, حتى استقل عنده جماعة من الفقراء, فشكا كل واحد داءه, لأنه طبيب ماهر, وقد يداوي بالهمة أو بالنظرة, فعندما أحسوا بالشفا ونشطت نفوسهم, وذهب داؤهم وبؤسهم, وطابت قلوبهم بالأذواق, وامتلأت قلوبهم بالأنوار, وأشرقت فيها شموس المعارف والأسرار, واستعملت نتائج أفكارهم, فأبدت من العلوم ما يليق بسعة صفائها: ترنم الحادي بالغزل الرقيق, واستعمل من الشعر ما بالجانب يليق, فإذا سمعته دقائق أفكارهم الصافية, وغوامض فهومهم العلية, وأحاطت بمعاني تلك الأشعار, واستخرجت ما فيها من علوم وأسرار, كل واحد على قدر نصيبه وشربه مما استفاد من شيخه بمحبته وصدقه, وعلى قدر مجاهدته وسيره, فمنهم من يكون حظه معاني الكلام الظاهرة ومنهم من يخوض بفكره إلى المعاني الباطنة, وقد يقع في أسماعهم من كلام واحد ما يليق بحال كل واحد, على حسب مقامه, كالنفر الثلاثة الذين سمعوا قائلا يقول: يا سعترا بري, فبعضهم سمع: اسع ترى بري وبعضهم سمع: الساع ترى بري, وبعضهم سمع: ما أوسع بري, فالأول حاله بداية, والثاني الاستشراف على النهاية, والثالث حاله واصل إلى الغاية.
وفي هذا المعنى قال ابن عطاء الله: العبارة قوت العائلة المستمعين, وليس لك منها إلا ما أنت له آكل, فإن تمادي الحادي على شعره حتى أتمه تكلموا فيه, واستخرجوا ما عندهم فيه من العلوم, كل على قدر وسعه لينفق ذو سعة من سعته الواصلون ومن قدر عليه رزقه السائرون, فاظهروا من علومهم ما يملأ سفرا أو أكثر, فهكذا كان سماع الناس في الزمان المتقدم, فهل ترى أيها المنكر لهذا الفعل من بأس أو أنت من الحال والوجد من أهل الإفلاس.
قلت: وليس مراد الشيخ الحصر في هذه الكيفية حتى لا يصح السماع, إلا إذا كان هكذا بل كل من وجد في نفسه كسلا أو قبضا: استعمل ما يزيل به كسله أو مرضه.
ثم اعلم أن اعتراض أهل الظاهر على الصوفية لا ينقطع أبدا: سنة ماضية, وخصوصا في السماع والرقص, وهم معذورون, لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتا ترقص وتشطح, ولا يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح, فيحملون ذلك على خفة العقل والطيش, فيقعون فيهم إلا من عصمه الله بالتسليم, ولذلك كان التصديق بطريقة القوم ولاية, والاعتراض جناية, إلا من صحت نيته وحملته الغيرة, فهو مأجور من جهة, محروم من جهة.
وقد رأيت للطرطوشي اعتراضا كبيرا على الصوفية في الرقص, حتى قال فيه: إنه ضلالة وجهالة, وذلك لما قلنا, قال تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله}.
وكان الشيخ ابن عباد رضي الله عنه يقول: لا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على أهل الباطن, أي: لأنهم لم يدركوا ما أدركه أهل الباطن, فلا تقوم الحجة عليهم بمجرد سوء الظن, ولله در أبي مدين حيث يقول:
إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى *** فلله يا خالي الحشا لا تعنفنا
إذا اهتزت الأرواح شوقا إلى اللقا *** نعم: ترقص الأشباح يا جاهل المعنى
إلى آخر كلامه وبالله التوفيق.
ثم أشار إلى مسألة الخلع, وهي خلع الثوب عنه, وإلقاؤه للفقراء فرحا وتواجدا كما فعله عليه الصلاة والسلام, فقال:
وكرهوا الخلع على المساعدة *** لأن فيه كلفة المعاندة
ومن يكن يخلع عند الحال *** فلا يجوز رده بحال
إذ كان كل عائد في هديه *** كالكلب ظل عائدا في قيئه
قلت: الخلع بفتح الخاء وسكون اللام هو: نزع الثوب عند السماع, وهو على ثلاثة أقسام: إما أن يكون مساعدة لغيره, أو لغلبة حال عليه, أو سقط بنفسه, الأول مكروه لما فيه من التكلف والمعاندة, أعنى المنافسة, لأنه لما رأى غيره خلع ثوبه وجدا أو حالا: خلع هو ثوبه مساعدة له, ومنافسة فيما فعل, وهذا لا يخلو من رياء وتصنع, واليه أشار بقوله: (وكرهوا الخلع). الخ. وإما أن يكون لغلبة حال عليه, فنزعه فرحا بالوجد أو شكرا لما وهبه الله من سني الأحوال, فهذا يأخذه الفقراء, ولا يجوز له الرجوع فيه بحال, لأن فيه الرجوع في الصدقة وقد قال عليه الصلاة والسلام: (والعائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه), والى هذا أشار بقوله: (ومن يكن يخلع عند الحال) الخ.
قال السلمي: وأكثر المشايخ يكرهون طرح الخرقة على سبيل المساعدة, لما فيه من التكلف المخالف للحقيقة, وما كان من معارضة حال أو وقت, فلا يجوز فيه الرد, لأن ذلك شبه هبة وهدية, وقال صلى الله عليه وسلم: (العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه).
وقيل: من رجع في هبته بالغ في خسته.
ثم إلى حكمه, فقال:
وحكمه في أفضل الأحكام *** رأي العراق ليس رأي الشام
قلت: ظاهر كلامه أن الضمير في (حكمه) يعود على الخلع الذي هو أقرب مذكور, لكن لم يذكر السلمي الذي يعتمده الناظم في هذا النظم هذا الخلاف, وكذلك التجيبي في (الإقالة) مع انه أطال في الكلام, ويحتمل أن يرجع الضمير إلى السماع من أصله, ويكون استدراكا لترجيح أحد القولين المتقدمين, في قوله: (قال أهل العراق بالتحريم, وقال الحجازيون بالتسليم) لكنه بعيد. لأن أهل الحجاز غير أهل الشام, وأيضا السياق يأباه, ولعل الناظم أطلع على خلاف بين أهل العراق وأهل الشام في الخلع بالجواز والمنع.
وجنح الشيخ زروق إلى المنع فقال: تنبيه.
الذي ينبغي الجزم في هذا الزمان منع الخرق, أي خلعها وأخذها والدخول عليها, لما عليه الناس من الشحة والاعتلال.
قلت: بل الظاهر الجواز, وليس في طريق الصوفية صوفي شحيح, بل هو من أقبح القبيح, ومن كان شحيحا تعلم السخاء بهذا وبغيره, ثم أشار إلى ما من يقل بها ومن يستحقها, فقال:
وحكموا الوارد في الخروق *** للأنس والخبرة بالطريق
قلت: إذا اختلف الفقراء في الخرق التي تخلع في مجلس السماع والذكر, هل ترد لصاحبها أو تقطع وتفرق بينهم أو تعطى لأحوج منهم, وحكموا أول وارد عليهم, فما حكم به اتبعوه وإنما فعلوا ذلك للأنس الذي يحصل بينهم في ذلك الحكم, بحيث لا يتغير قلب أحد.
وقيل: يحكمون من كان أهل الخبرة بطريق القوم, وهذا ما لم يحضر الشيخ, وأما إن حضر فالحكم له, وإذا خلعت على القوال فهي له لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل قتيلا فله سلبه).
وقيل: إن كان من جملة الفقراء فهو كأحدهم, وإن كان محبا فقط فهي له, وإن كان بأجرة فلا شيء له.
ثم ذكر ما يسقط بنفسه من غير أن يخلعه صاحبه, فقال:
والسقط مردود بلا خلاف *** وقدر هذا في السماع كاف
قلت: السقط بالكسر بمعنى: المسقوط, يعني أن ما سقط من غير اختيار صاحبه فهو مردود عليه, ولو كان من غلبة حال أو وجد إذا الخلع المتقدم إنما هو ما كان باختيار صاحبه فرحا بالوجد أو الحال, أو شكرا, لا ما سقط بغير اختياره, فلا يحل أخذه, إذ: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه).
تتميم: قال ابن ليون التجيبي: ومن أشار بيده أن يخلع, بان عنه ما عليه, ومن دخل الطابق (أي الحلقة) بفرجية غير مزورة بانت عنه, يعنى لتفريطه وعدم جزمه, ومن خلع ما على رأسه بان عنه كل ما عليه, فإن الخزق تابعة للتاج. قلت ولعل هذا حيث جرى به عرف أو عمل, وإلا فالظاهر اختصاصه بما خلع ثم قال: ومن رقص ويده تحته بانت عنه خرقه, ومن عثر في ثوبه أو داسه (أي وطىء عليه برجله) أو أطفأ به السراج, أو آذى به أحدا أو شبه ذلك بان عنه الثوب, وكذلك الإشارة بالكم, فان الفقير محفوظ والسقط بائن عنه, فيبين عنه ثوبه أقل شيء, بخلاف المحب, فانه لا يبين عنه ثوبه إلا باختياره, والعياط الفاحش في السماع يطالب صاحبه, فإن انفصل, وإلا استغفر, وكذلك الوقف الكثير في الطابق (أي الحلقة) ما لم تشهد له البواطن بالصدق, ولا يزاحم محترم محترما في طابقه, ولا يدخل الطابق غير فقير, لأنه لا يدري مشرب القوم, ويحبسه الخادم في موضعه إن غلب عليه وارد, انتهى.
وهذا القدر كاف في السماع, لمن له صدق واستماع, وبالله التوفيق, وهو الهادي إلى سواء الطريق.