"هل المَنْهج/المَذَهب هو الْـــمِـــنْـــهَـــاجُ المذكور في القرءان"؟
يقول الله وتعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [سورة المائدة آية48]
"المنهاج" من جعل الله تعالى إذاً؛ فالآية جاءت بعد الحديث عن اليهود والنصارى، وبعد أن قال الله تعالى مُخاطباً رسولَهُ صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [سورة المائدة آية48] فمفهوم الآية يوافق منطوقها؛ ومراد الله تعالى من هذه الآية ما يلي :
"لكل منكم (أي من الملل الثلاث: اليهود والنصارى والمسلمين) جَعَلْنَا شريعة تَحْكُمُهُمْ وَيُحَكِّمُونَهَا في أمر دينهم ودنياهم، وجَعَلْنَا أيضاً لكل منكم (لليهود وللنصارى وللمسلمين، إِذِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم المخاطبُ بقوله تعالى:﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ "هو" أول المسلمين) "مِنْهَاجاً" يَضْبِطُ الشريعةَ نفسها، أو بمعنى آخر الشريعةُ تَنْضَبِطُ بـ "المنهاج"
هذا هو "المنهاج"، وهذه هي طبيعته؛ فهل "المنهج" كذلك؟
أبداً؛ لا يمكن أن يكون ما هو من جعل الله تعالى كمن هو من جعل البشر !!
السلفيون وقعوا في خطأ في هذا الأمر، وذلك لأنهم يُحاولون باستمرار فَرْضَ مَنْهَجِهِمْ ـ وهو مَنهجٌ من اجتهادِ طبقةٍ (فَصِيلٍ) معينةٍ من علماء الأمة ـ على الأمة المسلمة (أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم )، وذلك بقولهم ’’يجب على جميع المسلمين أن يتبعوا منهج السلف’’؛ حيث يُوهمون عامة المسلمين أن السلف الصالح كانوا على "منهج" واحدٍ ووحيدٍ!!!
وهذا غير صحيح بالمرة؛ السلف الصالح كانوا على مَنَاهِجَ (من المنهج) مُتَعَدِّدَةٍ.
ابتداءً من عصر الصحابة (رضي الله تعالى عنهم أجمعين) ظَهرَ منهجان مختلفان (وكلا المنهجين من اجتهادهم رضي الله تعالى عنهم)؛ وقد أفرز ذلك مدرستين فقهيتين مختلفتين، أو بمعنى آخر اجتهادُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخرجَ إلى الوجود مدرستين فقهيتين مختلفتين، لكل واحدة "منهج" يختلف عن "منهج" الأخرى :
الأولى: مدرسة الأثــر
إنها مدرسة الحديث التي كان يُمثلها من الصحابة: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عـمر وعـائشة رضى الله عنها وغيرهم من فقهاء الصحابة الذين أقاموا بمكة والمدينة. ثم تبعهم على نفس النهج والمنهج (منهج النص والأثر) كل من: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد، وسليمان يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعمرو بن حزم، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهرى، وعطاء بن أبى رباح، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعبد الرحمن بن أبى ليلى، ووكيع بن الجراح، ومالك بن أنس، والليث بن سعد، ومسلم بن خالد الزنجى، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والإمام الشافعى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم كثيرون من أئمة مدرسة الحديث.
وكانت مدرسة الحديث منتشرة بمكة والمدينة.كما كان لها وجودها القوى بالعراق حيث كان يمثلها عامر الشعبى وسفيان الثورى، كما كان لها وجودها القوى بالشام حيث مثلها الإمام الأوزاعى وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن جرير الطبرى.
وتمتاز مدرسة الحديث بالوقوف عند النص من الكتاب أو السنة فإن لم يجدوا نظروا فى آثار الصحابة، وكان لكثرة بضاعتهم من الحديث وحفظهم له، وقلة ما يُعرض لهم من مستجدات الحوادث فى الحجاز معقل مدرسة الحديث أثر كبير فى عدم الحاجة إلى التوسع فى الاستنباط بخلاف ما كان عليه الحال فى العراق.
الثانية: مدرسة الــرأي
إنها مدرسة الرأى والقياس وكان أبرزُ من مثلها من الصحابة : عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود الذي كان شديد التأثر بمنهجه فى الأخذ بالرأى، والبحث عن علل الأحكام حيث لا نص.
وأول من وضع قواعد هذه المدرسة ـ في موطنها العراق ـ هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذى أقام بالعراق، وحمل عنه أصحابه العلم وقاموا بنشره.
كما كان لأصحاب على بن أبى طالب دورٌ كبيرٌ فى مدرسة الرأى. ومن أشهر أصحاب ابن مسعود: علقمة بن قيس النخعى، والأسود بن يزيد النخعى، ومسروق بن الأجدع الهمدانى، وعبيدة بن عمرو السلمانى، وشريح بن الحارث القاضى، والحارث الأعور، وهم جميعا من فقهاء القرن الأول، وماتوا رحمهم الله بين سنتى (63 ـ 83 هـ).
ثم تبعهم على نفس النهج والمنهج (منهج الرأي والقياس) كل من: الإمام إبراهيم بن يزيد النخعى وحماد بن أبى سليمان، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن الحسن الشيبانى، وأبي يوسف القاضى، وزفر بن الهذيل البصرى، والحسن بن زياد اللؤلؤى، وربيعة الرأى بن عبد الرحمن.
ولم تسقر هذه المدرسة إلا على يد الإمام أبي حنيفة حيث تبلورت على يديه هو وأصحابه طريقة مدرسة الرأى.
وكانت مدرسة الرأى مزدهرة فى العراق ومراكزه العلمية، كما كان لها وجودٌ قليلٌ فى المدينة حيث كان يقيم الإمام ربيعة بن عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأى.
وترى مدرسة الرأى أن شريعة الإسلام معقولة المعنى، مبنية على أصولٍ محكمةٍ، وعِلَلٍ ضابطةٍ لِلأحكامِ، ودورُ الفقيهِ أن يكشفَ عن هذه العلل ليستطيع الحكم فيما استجد من الأمور.
وقد كان لشيوع الفرق المختلفة بالعراق، وانتشار البدع فيه، وكثرة الكذب والوضع على النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم أثـرٌ بالغٌ فى تقلل أئمة الرأى من رواية الحديث والاعتماد على الاستنباط مما صَحََّ عندهم، خاصة وأن التصنيف فى السنة النبوية كان ما زال فى أطواره الأولى، ولم يصنف أئمةُ الحديث المعتبرون بَعْدُ كتبَهم المختارة المنتقاة التى يمكن الاعتماد عليها، كصحيح البخارى ومسلم، وكتب الجوامع والمسانيد، ومن هنا اقتصر علماء العراق على ما صَحّ لديهم .
أما بالنسبة لـ"المنهاج" فنعم الصحابةُ والتابعون وتابعو التابعين (السلف الصالح) كانوا على "مِنْهَاجٍ" واحدٍ ووحيدٍ؛ ولا يَسعُهم سوى ذلك، لأنه من جَعْلِ الله تعالى لهذه الأمة، والاختلاف فيه أو حوله حرامٌ، وقد يُؤدي الاختلاف الشديد فيه إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
منقول من كتاب:
"السلفية؛ أيستبدل المصطلح بالإسلام؟"
بقلم: محمد أبي زهرة
قرأه وقدم له: فضيلة العلامة المحدث: أبو الفتوح عبد الله بن عبد القادر التليدي الحسني
الطبعة الثاني 1432هـ 2011م مطبعة الشويخ تطوان المغرب، من صفحة 63 إلى 67
تابونا لمعرفة الفرق الكبير بين "المنهاج" والمنهج