الحمد لله
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله
الحمد لله على نعمة الإسلام الحمد لله على نعمة الإيمان الحمد لله على نعمة لا إله إلا الله كلمة الحق ومفتاح الجنة وباب الوصول إلى الله سبحانه وتعالى الكلمة التي من قالها فقد عصم دمه وماله وعرضه .. لا إله إلا الله
الحمد لله الذي أوضح لنا السبيل ودلنا على الطريق وبعث فينا ومنا حبيبه الرحيم الشفيق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك والعياذ بالله تعالى
اللهم صلي وسلم وبارك وكرم على حبيبك المصطفى إمام أهل الصدق والوفا وعلى أصحابه الخلفاء وآله الكرام الشرفاء والتابعين لهم بإحسان إلى يوم اللقاء برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا على الحق فيما نقول ونفعل ونعتقد بمحض فضلك وجودك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين أما بعد:
[التعريف بالمحاضرة]
فيا معشر الإخوان ويا أهل الإسلام والإيمان إن في ما يدور وما يكثر فيه الكلام وما يموج الناس فيه في هذا الزمان من اختلاط الحابل بالنابل وتغير الأحوال وانتشار الشبهات حصل في عالم الإسلام كثير من الشبه والإشكالات التي سببت الحيرة عند كثير من أهل الإسلام ، إن موضوع محاضرتنا هذه التي طلب منا بعض الإخوان إلقائها والحديث في موضوعها أمر التصوف ، التصوف هو أمر مشتهر بين أهل الإسلام على مر العصور السابقات ، ولا يكاد يخلو منه بلد ولا قرية ولا مكتبة من مكاتب المسلمين عن أخبار الصوفية وأهل التصوف وما كانوا عليه عليهم رضوان الله تعالى ، فقبل أن أتحدث في هذا الموضوع والذي ربما تكلم فيه بعض الناس بما لا يليق وبما لا يصح ، وللأسف أن البعض قد طال لسانه وتجرأ قلمه في أن يتهم أهل التصوف ليس بالبدعة وليس فقط بشيء من الفسوق بل لقد طالت بعض الألسن على أهل التصوف بتهمة أنهم على الشرك والكفر وأنهم استمدوا عقائدهم وأفكارهم من الفلسفة اليونانية والهندية وغير ذلك ، وهذا الكلام يحتاج منا إلى حسن نظر وتأمل وتروي فنقول لأهل هذه الاتهامات الباطلة : تريثوا وتمهلوا وتروَّوا فيما تقولون فإنكم تتكلمون عن أمر عظيم ربما وقفتم بين يدي الله تعالى يوم القيامة للمسائلة عنه ، فأحب قبل أن أشرع في هذا الميدان لحسن البيان بما بلغنا من كلام أهل العلم عليهم الرضوان ، أحب منكم ومن كل سامع لهذا الكلام أن يتحلى بالإنصاف وأن يحسن تأمل هذا الكلام ، فأحب من كل سامع أن يسمع الكلام كاملاً ، فلا يأخذ بمقدمة هذا الكلام وينسى آخره ، ولا أن يأخذ جزئية منه ويترك الباقي ، بل أريد أن يسمع كل واحد منكم جميع هذا الكلام وهذه المحاضرة ، ثم إن كان هناك إشكالاً أو أمرٌ غير مفهوم فيمكن السؤال ويمكن الاستفسار وإن شاء الله تعالى يكون لهذه الأسئلة الأجوبة التي تشفي الغليل وتحيـي الضمير إن شاء الله تعالى ، فأقول مستعينًا بالله تعالى متوكلاً عليه ، مفوضًا لأمري كله إليه تعالى في علاه .
[ماهية التصوف]
التصوف
التصوف الذي نعنيه نحن هنا هو الطريق الحق الذي انتشرت أخباره في المشارق والمغارب
التصوف المقصود منه كما قال أهل العلم هو بلوغ مرتبة الإحسان ، لأننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة { الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } [آل عمران/75]
فإذا المهمة التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مهمة مخاطبة العقول أو التلاوة أو الإرسال إليهم فقط ، إنما كان مبعوثًا بالتعليم والتزكية والتربية ، فإذاً شأن التزكية للنفس الذي يبلغ صاحبها إلى مرتبة المعاملة مع الله تعالى التي سأل عنها رسول الله في الحديث الصحيح لما جاءه جبريل فقال يا محمد أخبرني عن الإسلام فأخبره ثم قال أخبرني عن الإيمان فأخبره ثم قال أخبرني عن الإحسان وقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، إذًا نحن علمنا أن الإسلام هو الأركان الخمسة الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج ، وعلمنا أن شرائع الإسلام ألُّفت فيها المؤلفات الكبيرة ، وأن أهل الإسلام أخذوا فيها بالمذاهب التي اشتهرت فهناك المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، كل هذه المذاهب جاءت في تفريعات أمور الشريعة الظاهرة وهي الإسلامية في أركان الإسلام وما يتعلق بها من معاملات بعد ذلك ، ثم جاءنا في الإيمان كلام أهل التوحيد والذين تكلموا وسموا بعد ذلك برجال العقيدة وسمي هذا العلم بعلم العقيدة ، وبقي شأن التزكية وشان التربية وتصفية القلوب لتحقيق هذه العبودية لله سبحانه وتعالى فسميت بما تعارف عليه أهل الإسلام من أهل القرون الأولى أنه التصوف.
التصوف عرفه أهله وأصحابه وأئمته ، نحن نعلم أن كل علم يرجع فيه إلى من أسسه وإلى رجاله وإلى أئمته ، فعلم التصوف علم عظيم تعلق بالتربية على وفق الكتاب والسنة ، وأئمته الذين اشتهروا به وهم مراجعٌ فيه ممن استخلص معاني التربية من الكتاب والسنة عرفوا هذا المنهج بتعريفات هي الأصل والمرجع فلا يأتي أحد فيعرف التصوف ثم يهاجم التصوف من حيث تعريفٍ عرفه هو أو غيره ، وينسى التعريفات التي عرفه بها أهله رضوان الله تعالى ، فمثلاً :
[تعريف علماء التصوف للتصوف]
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني -وهو من كبار أهل التصوف ومن أشهرهم على الإطلاق- يقول:
((التصوف ليس ما أخذ عن القيل والقال ولكن أخذ من الجوع وقطع المؤلوفات والمستحسنات))
ويقول الإمام الغزالي - الحجة التي سمي بـحجة الإسلام وهو الذي أحسن البيان في مجال التصوف وكتبه أجرى الله بها النفع في جميع بلاد المسلمين- يقول :
(( التصوف هو تجريد القلب لله تعالى واحتقار ما سواه )) أي تخليص القلب لله تعالى واعتقاد ما سواه اعتقادًا أنه لا يضر ولا ينفع فلا يؤول إلى على الله فالمراد باحتقار ما سواه اعتقاد أنه لا يضر ولا ينفع وليس المراد الازدراء والتنقيص
ويقول الشيخ ابن عطاء السكندري - صاحب الحكم - :
((التصوف هو الإسترسال مع الحق ))
ويقول الشيخ معروف الكرخي :
(( التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق ))
ويقول الإمام أبو الحسن الشاذلي -الذي يتبعه في ميدان التصوف الملايين اليوم من البشر-:
(( التصوف تدريب النفس على العبودية وردها إلى أحكام الربوبية ))
ويقول الإمام الجنيد -والإمام الجنيد يسمى سيد الطائفة الصوفية- يقول الإمام الجنيد:
((التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استماع وعمل مع اتباع)) يعني اتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم
ويقول أيضًا :
(( علمنا هذا -أي التصوف- مقيد بالكتاب والسنة ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر والطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ))
ويقول :
(( علمنا هذا -يعني التصوف- مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يسمع الحديث ويجلس ويأخذ أدبه من المتأدبين أفسد من اتبعه ))
ويقول :
(( التصوف أن يختصك الله بالصفاء فمن صفا من كل ما سوى الله فهو الصوفي ))
إلى غير ذلك من التعريفات ويقول أيضًا :
(( التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدعاوي النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بالعلوم الحقيقية واستعمال من هو أولى على الأبدية والنصح لجميع الأمة والوفاء الله على الحقيقة واتباع الرسول في الشريعة ))
هكذا يعرف هذا الإمام التصوف بأنه كله كتاب وسنة
ويقول الإمام السري -من تلامذة الإمام الجنيد- يقول :
((سمعت الجنيد يقول التصوف أن يميتك الحق عنك ويحييك به ))
ويقول السيد الشريف الجرجاني :
(( التصوف هو وقوف مع الآداب الشرعية ظاهرًا فيسري حكمها من الظاهر إلى الباطن وباطنًا فيسري حكمها من الباطن إلى الظاهر فيحصل للمتأدب بالحكمة كمال ))
ويقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري -مجمع القراءات الإسلامية قراءات القرآن- يقول :
(( التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس وتصفية الأخلاق وتأمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية ))
ويقول مِن مَن عرف التصوف من المتأخرين شيخ محمد سعيد البوطي :
(( التصوف اسم حادث لمسمى قديم إذ إن مسماه لا يعدو كونه سعيًا إلى تزكية النفس مع الأغبار العالقة بها عادةً كالحسد والتكبر وحب الدنيا وحب الجاه وكذلك ابتغاءه توجيهها إلى حب الله عز وجل والرضا عنه والتوكل عليه والإخلاص له سبحانه وتعالى))
ويقول الإمام الحداد -من أكابر رجال التصوف باليمن- يقول :
(( طريقنا هو العلم والعمل به والإخلاص لله والورع والخوف من الله جل جلاله وتعالى في عظمته ))
-ويقول في بعض أبياتًا له:-
وإن الذي لا يتبع الشرع مطلقًا * على كل حال عبد نفس وشهوة
فبـيع هوى يبكـى علـيه لأنـه * هو الميت ليس الميت ميت الطبيعة
وما في طريق القوم -يعني الصوفية- بدأً ولا انتهاء * مخالفة للشرع فاسمع وانصت
وخل مقالات الذين تخبطوا * ولا تك إلا مع كتابٍ وسنة ))
ويقول بعضهم في وصف أهل التصوف:
(( قوم همومهم بالله قد علقت * فمالهم همم تسمو إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم * يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف * من المطاعم واللذات والولد
ولا للباس ثياب فائق أنق * ولا لروح سرور حل في بلدي ))
أحببت أن أنقل هذه التعريفات لأولئك الكرام السادات أوائل أهل التصوف وأكابرهم حتى يعلم السامع أن مراجع أهل التصوف يقولون أن التصوف أنه كله كتاب وسنة وكله تزكية للنفس وكله تربية للأخلاق للوصول إلى مرتبة الصديقية والقرب من الله والإحسان مع الله .
[لفظ التصوف]
ثم نأتي إلى لفظ التصوف نفسه
كثيرٌ يشكل عليه لفظ التصوف ويقول (لماذا تسمون هذا بالتصوف؟) و (لماذا لا نكتفي بذكر التزكية ؟) و (لماذا هذه الطائفة سميت بالصوفية؟) فنقول:
أولاً : التصوف اختلف العلماء في أصله من أين أتى هذا الاسم ، فقال بعضهم (أتى هذا الاسم من الصوف) لأن كثير من أوائل هذا المنهج من الزهّاد والعبّاد اشتهروا بلبس الصوف ; والصوف هو لبس الأنبياء وهو لبس الصالحين وهو كذلك لبس الصحابة عليهم رضوان الله تعالى الكثير منهم لبسوا الصوف لأنه زهيد الثمن ولأنه لبس الفقراء والضعفاء وأهل التصوف كانوا يميلون إلى الفقر وإلى الزهد في هذه الدنيا كما حثّت على ذلك الشريعة وجاءت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كلها زهد في هذه الفانية المنتهية النافذة الدنيا وما فيها .
وقال بعضهم (إن التصوف أصله جاء من الصفاء)
وبعضهم قال (هو مشتق من الاصطفاء)
فالصوفي هو الذي صوفي من الحق أي صافاه الحق فهو الصوفي
وقال بعضهم (هو من الصِفَّا) لأن أهل الصِفَّا الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة -وكان منهم أبو هريرة وغيره- هم فقراء الصحابة الذين جاؤوا إلى المدينة وليس لهم بيتٌ يأويهم وليس لهم زوج ولا ولد هؤلاء أهل الصِفَّا كانوا يلبسون الصوف ويجلسون في الصُفَّ يعبدون الله تعالى ويذكرون الله فإذا جاء الجهاد خرجوا وإن لم يكن الجهاد بقوا في مسجد رسول الله يعتكفون يأكلون مع رسول الله ويشربون مع رسول الله ولذلك يقول أبو هريرة عليه رضوان الله : (إني حفظت هذا الحديث لأني كنت أمشي مع رسول الله على ملأ بطني) يعني أنه لم يكن هناك شيء يشغلني كمثل بقية الناس فأنا كنت ملازم رسول الله أأكل معه وأشرب معه وليس عندي شيءٌ يشغلني
فقال بعضهم (أن أهل التصوف هم أمثال أهل الصُفَّا الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) .
وعلى العموم .. كثرت الأقوال وليس هناك مشاحة في الاصطلاح كذلك قال أهل العلم :
(( لا مشاحة في الاصطلاح )) قل ما شئت .. وسمي ما شئت .. ما دام أن ذلك ليس بخارج عن الحق وعن طريق الحق فليس هناك إشكال ، فنحن نعلم أن مسميات كثيرة قد حدثت في الإسلام ، مثلاً :
لماذا جاء اسم (أهل السنة والجماعة) ؟ هل كان الصحابة يسمون بأهل السنة والجماعة ؟ هل كان من التابعين من يسمى بهذا الاسم ؟
ثم جاءت بعد ذلك المذاهب : فيقال عن الذين تبعوا في فروع الفقه أباحنيفة يقال لهؤلاء (الأحناف) ، ولأولئك (المالكية) ، ولأولئك (الشافعية) ، ولهؤلاء (الحنبلية) لماذا ؟ واشتهرت هذه الأسماء ولم يعترض عليها أحد في الإسلام !
ثم جاءنا في علم العقيدة مثلاً أن العقيدة لم يأتي هذا اللفظ لا في عهد رسول الله ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا تابع التابعين ولا في القرن الثالث ولا في الرابع بل ولا في الخامس فمتى اشتهر علم العقيدة بهذا الاسم إلا مؤخرًا ، فلماذا لم نقل أن علم العقيدة هذا علم باطل وعلم مبتدع لماذا ؟!
نقول (لا مشاحة في الاصلاح) الألفاظ لا مشاحة فيها ، أمور اشتهرت بين المسلمين واستحسنت بين المسلمين ، فلماذا تنكر هذه الأسماء ونحن نرى إلى هذا اليوم يسمى هؤلاء بالسلفية وهؤلاء يسمون بكذا والذين يتخرجون من جامعة إسلامية معينة يسمون باسم تلك الجامعة فلا بأس من نسبة الناس في فئاتهم إلى شيء من هذه التصنيفات فلا بأس في ذلك ، وهو أمر مشتهر بين أهل الإسلام من قديم وجاء بعد ذلك علم المصطلح وجاءنا بعد ذلك علم الأصول وعلم التخريج والرجال كلها أمور حدثت بعد القرون الأولى فلا بأس بها وأهل الإسلام كلهم متفقون على ذلك فلماذا التصوف بالخصوص يأتي بعضهم فيقول (لماذا هؤلاء جعلوا لأنفسهم لماذا التزكية مهمة المسلمين أجمعين) . نعم نحن نعلم أن أهل التصوف لم يقولوا نحن مثلاً (لا نأخذ الفقه) لكن كما أن هناك أناس اشتهروا مثلاً بالعقيدة فهل يعني أن أولئك يسمون بعلماء العقيدة ، أو الذين اشتهروا بعلم الفقه يسمون بالفقهاء ، والذين اشتهروا بعلم التفسير سموا المفسرين رجال التفسير ، رجال المصطلح ، رجال الأصول ، هل يعني أننا إذا أطلقنا على أحد هذه الأصناف من الناس الذي اشتهروا بنوع من العلم ، أننا نقول أنهم لا يعلمون شيئًا من تلك العلوم أبدًا ؟! لا لا نقول ذلك إنما هذا الشخص قد اشتهر بهذا الصنف من العلم بزيادة وهو يعلم تلك العلوم الأخرى ، كذلك الصوفية هم تخصصوا في أمر التزكية والتربية والمتابعة لدقائق النفوس لتفسيرها بما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وألفُّوا في ذلك المؤلفات وعملوا لذلك المجالس والمجامع والوعظ والتذكير وهم كذلك أهل تفسير وهم فقهاء وهم أهل حديث -وإذا رجعنا وسيأتي معنا إن شاء الله تعالى -فيما يأتي- أن الصوفية هم رجال التفسير أن الصوفية هم رجال الحديث أن الصوفية هم رجال المصطلح أن الصوفية هم رجال الفقه فكلها الكتب الموجودة في العالم الإسلامي اليوم طافحة بمؤلفات أهل التصوف الذين ألَّفوا في أنواع العلوم وأصنافها ، هذا المعنى وإن كنت لا أحب الإطالة فيه إلا لأن البعض يشكل عليه أمر اللفظ ولا مشاحة في الاصطلاح أبدًا .
[بروز التصوف]
نعود إلى مسالة بروز التصوف ، متى برز التصوف بهذا الاسم وبهذا المنهج ؟ هل التصوف -الذين يهاجمون التصوف هؤلاء بالجرأة- نقول لهم تريثوا تريثوا هل التصوف هو وليد سنوات يسيرة ؟ هل هو وليد هذا القرن الأخير ؟ هل هو وليد قرنين أو ثلاث أو أربع أو خمس؟
لا ، التصوف ظهر من القرون الأولى قرون الخيرية وأكابر الصوفية هم الذين كانوا في القرون الأولى الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم }
أولاً .. نعود إلى بعض الكتب التي نقلت شيئًا من ذلك . يقول الكندي سنة مائتين و واحد في كتابه (الولاة والقضاة) في صفحة 162 -مائة واثنين وستين- يقول :
(( وظهرت طائفة بالاسكندرية يسمون بالصوفية يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) سنة مائتين و واحد !
ويقول الإمام الحسن البصري كما نقل عنه السراج الصوفي في اللمع يقول :
(( رأيت صوفيًا في الطواف فأعطيته شيئًا لم يأخذ .وقال معي أربعة دوانيق فيكفيني ما معي ))
ويقول الإمام الكلاباذي-الإمام الكلاباذي توفي سنة 398 هـ ثلاثمئة وثمانٍ وتسعين يعني هو من أهل القرن الرابع !- قد ألف كتابًا كاملاً سماه التعرف لمذهب أهل التصوف وروى كثيرًا من أخبار الصوفية من أهل القرن الثاني ومن أهل القرن الثالث الذين اشتهروا بالصوفية ومن أحب أن يطالع هذا الكتاب فهو كتاب بحمد الله مطبوع وموجود في أسواق المسلمين يمكن أن يرجع إليه وأن ينتفع به والإمام الكلاباذي روى عنه الحاكم وروى عنه الدارقطني وترجم له الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قال عنه الحاكم -عن الإمام الكلاباذي صاحب كتاب التعرف لمذهب اهل التصوف- قال : ((هو من الحفاظ حسن الفهم والمعرفة عارفًا بصحيح البخاري وهو متقنٌ ولم يخلف بما وراء النهر مثله)) يعني أنه طبقة في هذه العلوم وفي الحديث وجاء ليجمع لنا هذا الكتاب عن التصوف ثم نجد مراجع أهل التصوف من أهل القرون الأولى نذكر بعضهم على سبيل الإجمال لا التفصيل فمثلاً عندنا :
الإمام الحسن البصري الذي تلقى عن جملة من الصحابة وهو مرجع أهل التصوف وأكثر طرق الصوفية اليوم يروون الطريق ويأخذون السند في التزكية إلى الإمام الحسن البصري وهو ولد في سنة 22 هـ اثنين وعشرين وتوفي سنة 110 هـ مائة وعشرة .
عندنا الإمام إبراهيم بن أدهم ، عندنا الإمام عبد الله بن المبارك ، أبو مسلم الخولاني ، -كلهم من أهل القرن الأول- الإمام محمد بن واسع توفي سنة 123هـ مائة وثلاثة وعشرين ، الإمام مالك بن دينار 131 هـ سنة مائة و واحد وثلاثين ، داود الطائي سنة 165 هـ مائة وخمس وستين ، الفضيل بن عياض سنة 186 هـ مئة وست وثمانين ، معروف الكرخي سنة 200 هـ مئتين ، شيخ سليمان الداراني 215 هـ مئتين وخمسة عشر ، الحارث المحاسبي المشهور الذي له جملة من الكتب في التصوف وهي موجودة في مكاتب المسلمين الإمام الحارث المحاسبي توفي سنة 243 هـ مئتين وثلاث وأربعين ، ذا النون المصري 245 هـ مئتين وخمس وأربعين ، أبو حمزة الصوفي -وهو ممن أخذ عنه الإمام أحمد بن حنبل وكان الإمام أحمد يجالسه- في سنة 269 هـ مئتين وتسعة وستين ، الإمام الجنيد -سيد الطائفة الصوفية مرجع أهل التصوف- سنة 297 هـ مائتين وسبع وتسعين ، وبعدهم الإمام الغزالي والجيلاني والشاذلي والفقيه المقدم في القرن الخامس وبعده وقبله أعداد كبيرة جدًا من أهل التصوف هم من أهل تلك القرون الخيرية فما نقول في هؤلاء الأئمة ؟ الذين سردت أسمائهم الآن من أهل التصوف رووا لنا الحديث واشتهرت تراجمهم في كتب التراجم ولا يكاد في كتب الطبقات أن تخلو هذه الكتب عن أسمائهم وعن أخبارهم وعن قصصهم ولا يستطيع واعظٌ أن يرجع إلى المواعظ إلا بذكرهم وذكر أخبارهم وقصصهم عليهم رحمة الله ورضوانه سبحانه وتعالى إذًا نحن نعلم أن التصوف نشأ من تلك القرون الأولى ، لهذا نقول للذين يسارعون في الهجوم على التصوف تريثوا لتعلموا إذا أردتم الكلام عن التصوف أنتم تتكلمون عن من ؟ وتتحدثون عن من ؟ ثم نقول لماذا برز التصوف في تلك القرون الأولى ؟ ما هي الدوافع والدواعي التي جعلت التصوف يبرز كمنهج ، لماذا برز التصوف كمنهج ؟ له قواعده وله ترتيباته وله رجاله وله أئمته . نقول :
نحن نعلم أن سيدنا عثمان بن عفان عليه رضوان الله تعالى قتل في داره شهيدًا ، وفتح على الأمة باب فتنة عظيمة ، ثم بعد ذلك قتل سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وتحولت بعد ذلك الخلافة إلى ملك ، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، تحولت الخلافة إلى ملك ، ولما تحولت الخلافة إلى ملك ، بدأت الأوضاع في العالم الإسلامي تتغير ، ثم اشتدت ، فجاء يزيد بن معاوية الذي شهد علماء الإسلام أنه كان فاسدًا وفاجرًا ، فصارت من الفتن في الحرمين الشريفين وفي بلاد المسلمين أشياء يشيب لها رأس الوليد ، فلقد هدمت الكعبة وقتل الحجاج عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كرام التابعين من أكابرهم ، ثم قتل خيار خيار أهل الأرض في ذلك الوقت ، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ، قتل وقتل معه أعداد كبيرة من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الوضع السياسي الذي كان في المجتمع في ذلك الزمن ، هذا كله مع نهاية القرن الأول أو منتصفه ، بعد منتصفه ، حدثت هذه الفتن ، وقتل عبد الله بن الزبير وحصلت هذه المصائب العظيمة الكبيرة الشديدة و لحق بأهل الملك وبدور الأمارة أعداد من من أخذوا صورة هذا العلم فأخذ كبار علماء الإسلام -كمثل الحسن البصري وأشباهه وأمثاله- ، أخذوا وانحازوا بأنفسهم عن هذه الفتنة ، ولم يجالسوا الحكام والملوك والأمراء وبقوا يطالبون الأمة بالرجوع إلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الأموال انتشرت في الأمة وجاءت الأموال والملابس الفاخرة والعطور الفاخرة من كل مكان ، وبقي هؤلاء الطائفة على ما كان عليه رسول الله يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع ، ويلبس الصوف ، وداره وحجره معلومة وصغيرة بسيطة حياته كلها صلى الله عليه وسلم فقر وزهد وورع وترك لمستلذات هذه الحياة الفانية ، فلما بقي هؤلاء الجماعة على هذا الوصف ، عرفوا بالصوفية واشتهروا بهذا اللفظ ، فصاروا يتكاثرون وصاروا يدعون إلى هذا الطريق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بعض الأسباب التي كانت في ذلك الزمن ، داهمت الأمة فسببت إنحياز أهل الصدق والزهد وأهل الإحسان إلى بعضهم البعض وأخذهم عن آل بيت رسول الله وعن الصالحين والبقية الباقية من الصحابة ، فبقوا على ذلك الوصف الحسن الطيب ، ثم هناك أوضاع اجتماعية كذلك أثرت ، كما أن هذا الوضع سياسي ومن الفتن وتغير الخلافة إلى الملك سبب انحياز أهل التصوف واجتماعهم وتسميهم بهذا الاسم ، فهناك ظروف اجتماعية كذلك ، كظهور الطوائف المختلفة وكما حصل الترك والتخلف لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من السنن وكثرة الأموال وظهور الترف الذي ظهر في العالم الإسلامي في ذلك الوقت كل هذه أسبابٌ اجتماعية ، جعلت الصادقين من علماء هذه الأمة المتمسكين بأصل ما جاء عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يبقون يأخذون بهذا الفقر والزهد بمنهج التصوف .
هذه كلها مقدمات وحقائق تاريخية وأوضاع أحببت بيانها من أجل أن تسمع وتعلم ، ومن أجل أن تعرف يا أخي أن التصوف نشأ في هذه الظروف وبهذه الأسباب وبهؤلاء الرجال ، ثم نأتي إلى الأدلة والبراهين التي تدل على أن التصوف حق ، وعلى أن أهل التصوف هم أهل حق فأقول :