بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعينإن المنزه يكون إما مفوضا وإما مؤولا فقد ثبت أن التفويض والتأويل كانا عند السلف ولسوء حظ المشبهة زعموا أن الإثبات هو حمل آيات الصفات وأحاديثها على ظواهرها المستحيلة ، وقد أثبتنا في موضوع مستقل سابق أنه عقيدة باطلة يدندن حولها المشبهة . والسلف برآء عن ذلك الأمر . إلا أنهم يقرؤونها ولا يفسرونها بل يفوضون معانيها إلى الله تعالى قاطعين بإستحالة ظواهرها أو يؤولونها لدفع الناس عن الوقوع في الشبهة وأن الإثبات المتعارف عندكم محض التشبيه ، وإما إدعاؤكم أن من لا يثبت آيات الصفات على ظواهرها ومعانيها الحقيقية معطل ( ومعاذ الله ) فما ذلك إلا سوء فهم منكم ودعوة جاهرة إلى عقيدة التشبيه .وهذا إن قوله تعالى ” الرحمن على العرش استوى ” كلمة حق أريد بها الباطل وهو من آيات الصفات التي يوهم ظاهرها التشبيه ، والله إننا لقد آمنا بها وبسائر الآيات التي فيها لفظة ” استوى ” فلذلك نقرأها بلا أدنى تردد وإن الذي يؤمن بها ويفوض معناها إلى منزلها مقبول لدينا ، والذي يقرأها ويؤولها إلى معنى يليق بجلاله على ما يقتضيه لسان العرب هو أيضا مقبول لدينا ، ولا شك أن هذا زمان لا مفر لنا فيه من التأويل لأن المشبهة قد تسللوا في كل مكان ويعلمون عقيدتهم الباطلة حتى الصبيان الدارسين في الكتاب .يا مشبهة أنتم خالفتم منهج السلف في مسألة آيات الصفات وتعرضتم لفهم معنى هذه الآية حتى تصلون إلى حد أن تستنبطوا منها أن الله عال على عرشه بذاته علوا حسيا وأن العرش مكانه تعالى ، وهذه الآية المتشابهة عندكم محسوبة من جملة المحكمات .يا مشبهة هل تستطيعون أن تأتوا بدليل من القرآن أو السنة على زياداتكم المشؤومة وهي لفظ ( بذاته ) ؟؟الحافظ ابن حجر العسقلاني المتفق على إمامته وجلالته والعالم الإسلامي كله يفرح ويفتخر بندائه ” أمير المؤمنين في الحديث ” ينسف عقيدتكم هذه من أساسها بقوله عند شرح حديث ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه ، أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته …) وفيه الرد على من زعم أنه على عرشه بذاته . الفتح ( 1/508) .وقد استنكر هذه الزيادة الحافظ الذهبي أيضا في كتابه العلو- الذي يحاول الوهابيون أن يملأوا طباق الأرض به لنشر عقيدة التشبيه -حيث قال بعد أن نقل قول يحى ابن عمار : قولك ” بذاته ” من كيسك ” . العلو ( ص 547 ) … وكذا قال الذهبي بعد ما نقل قول ابن ابي زيد : وقد نقموا عليه في قوله ” بذاته ” فليته تركها .قولوا لي أيها المشبهة أين أنتم من قولكم المزور ” لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه ” ؟ يا مشبهة ما أنكرنا قط ولا ننكر البتة – كما تقولون – استواء الله على العرش فإنه منصوص عليه في القرآن ، وكذا تفسيره بالعلو والإرتفاع ، بل نقول جهارا إن من ينكره كافر بلا شك ، لكن لا نحمله مثلكم على ظاهره ومعناه الحقيقي المعقول المكيف بالحلول والإستقرار . ما الفائدة في قولكم ” نصف الله بما وصف به نفسه من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف “ مع قولكم استوى على عرشه بذاته حقيقة ( لا مجازا ) وقولكم هذا لا يخلصكم من التشبيه.يا مشبهة مما لا يذكر أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الإستواء بالعلو والإرتفاع ، ويمكن لنا ان ندعي أن هذا التفسير أيضا تأويل لأن العلو يحتمل المعنيين . إذا قلنا ( علا زيد على أقرانه ) لا يكاد يفهم أحد أن زيدا صعد رؤوس أقرانه فوقف عليها ، لكن معناها ( فاق أقرانه في الرتبة ) وإذا قلنا ( علا زيد على الفرس ) أي جلس على ظهره ، فالمعنى الأول جائز في حق الله تعالى لائق بجلاله ، وندعى أن ابن عباس رضي الله عنهما ما أراد إلا إياه لأنه من المنزهين . والمعنى الثاني مستحيل في حقه تعالى لأنه من لوازم الأجسام. فلا تزعموا بلا جدوى أن كل من يفسر الإستواء بالعلو والإرتفاع يؤيد عقيدتكم الباطلة وهم لم يزيدوا مثلكم لفظة ” بذاته ” ولفظة ” علوا حسيا ” وما هو إلا وهم منكم .يا مشبهة أنصحكم أن لا تقلدوا الرجل المجسم الذي قد ادعى جواز اسقرار الله على ظهر بعوضة ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .والحافظ ابن حجر العسقلاني يبطل عقيدتكم ( العلو الحقيقي ) بقوله ” ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محالا على الله أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى ، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس ” ا هـ الفتح ( 6/136)يا مشبهة انظروا بعين الإنصاف إلى ما قال الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره الملقب بأجل التفاسير ( 1/192) عند تأويل قوله تعالى ” ثم استوى إلى السماء ” ما نصه : والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب في تأويل قول الله ” ثم استوى إلى السماء ” الذي هو بمعنى العلو والإرتفاع هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إذا تأوله بمعناه المفهوم كذلك أن يكون إنما علا وارتفع بعد أن كان تحتها إلى أن تأوله بالمجهول من تأوليه المستنكر . ثم لم ينج مما هرب منه ، فيقال له : زعمت أن تأويل قوله ” استوى ” أقبل ، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إلبها ؟ فإن زعم أ، ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير ، قيل له : فكذلك فقل : علا عليها علو ملك وسلطان لا علو إنتقال وزوال . ا هـ.ما ينقصكم يا مشبهة إذا أولتم الإستواء كما أوله الحافظ ابن جرير وهو أحد أئمة السلف ؟ أليس هذا تأويلا صريحا تضجر منه أنفسكم ؟ أتدعون بعد هذا أن الله علا على عرشه علوا حسيا ؟؟؟ نسأل الله تعالى التوفيق إلى ترك عقيدتكم الباطلة هذه والرجوع إلى العقيدة الصحيحة .إنكم تدعون أيضا أن المخلوقات تنتهي بالعرش وأن العرش منتهى المخلوقات ، وليس فوقه شيء سوى سبحانه ، ويبطل دعواكم هذه ما يلي:قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح ( 3/526 ) عند شرح حديث (( إن الله كتب كتابا لما قضى الخلق أن رحمته سبحانه سبقت غضبه فهو عنده فوق العرش )) ما نصه :-” والغرض منه الإشارة إلى أن اللوح المحفوظ فوق العرش “قولوا لي إذا شارك اللوح خالقه تعالى في الكون فوق العرش ، ألا يتعارض هذا مع قوله تعالى ” ليس كمثله شيء ” هل ترى أن اللوح شريك لله بوجوده معه فوق العرش ؟؟عقيدتكم عقيدة فرعونيةقال السيد حسن السقاف في مقدمة الدفع ( ص 58) ما نصه: عقيدته هذه نفس عقيدة فرعون المجسم المشبه الذي أمر أن يصنع له صرح أي برجا عال ليصل إلى ربه ، فقال عندما ظن أن رب موسى عليه السلام في السماء ، كما تعتقد المجسمة اليوم : ” يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ، وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل ” . فبين الله لنا وأعلمنا أن من ظن حلول الله تعالى في السماء قد صد عن سبيل معرفة ربه ، والمفسرون متفقون على أن معنى قوله ” وإني لأظنه كاذبا ” أي : أن له إلها غيري بدليل قوله ” ما علمت لكم من إله غيري ” ويؤكد ذلك أن سيدنا موسى لم يقل لفرعون ولا في آية واحدة ( الله موجود في السماء ).قال الإمام فخرالدين الرازي رحمه الله في تفسيره ( 14/119) ما نصه ” إن فرعون لما طلب حقيقة الإله من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات ، فإنه لما قال ” وما رب العالمين ” ففي المرة الأولى قال ” رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ” وفي الثانية قال ” ربكم ورب آبائكم الأولين ” وفي المرة الثالثة ” رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ” ومل ذلك إشارى إلى الخلاقية ، وأما فرعون لعنه الله فإنه قال ” يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ السباب ، أسباب المساوات فأطلع إلى إله موسى ” فطلب الإله في السماء فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى عليه السلام وسائر جميع الأنبياء وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوته من الكفرة ” ا هـ.نقل الحافظ ابن حجر عن الإمام ابن بطال في الفتح ( 13/433) ما نصه ” لا تعلق للمجسمة في إثبات المكان لما ثبت من إستحالة أن يكون سبحانه جسما أو حالا في مكان . فيكون تأويل الرداء ، الآفة الموجودة لأبصارهم المانعة لهم من رؤيته ” ا هـ .ونقل الحافظ الكرماني في الفتح ( 13/412) ما نصه : قوله ” في السماء ” ظاهره غير مراد ، إذ الله منزه عن الحلول في المكان لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات . ا هـ .يا مشبهة كيف تجرؤن على مخالفة منهج السلف في آيات الصفات ( الذي هو قراءتها وعدم تفسيرها مع القطع بأن ظاهرها غير مراد ) وتخوضون في كشف معانيها ثم تزيدون في شأن الله تعالى ما تزيدون وتنقصون ما تنقصون وأنتم خلف ستار (إننا أتباع السلف ) ولم يقل أحد من أئمة السلف والخلف أن آيات الصفات وأحاديثها المشكلة على المعنى الذي أراده العرب أو على المعنى الذي أردناه ، إنما قالوا : على المعنى الذي أراده الله ورسوله .1- إن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله لما تكلم في عقيدته الطحاوية عن إحدى آيات الصفات المشكلة وهي ” وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ” قال ما نصه : (وتسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال ، ومعناه على ما أراد . لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا . فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد ما أشتبه عليه إلى عالمه ) ا هـ .2- قال الحافظ النووي رحمه الله عند ما أشار إلى منهجي السلف والخلف في أحاديث الصفات ، أحدهما : وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين ، إنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ، ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد . ا هـ ، شرح صحيح مسلم ( 17/183 )3- قال الإمام ابن دقيق العيد في الفتح ( 13/183) ما نصه: نقول في الصفات المشكلة : إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله ونسكت . ا هـ.4-قال الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 16/97 ) ما نصه : تعالى الله أن يحد أو يوصف إلا بما وصف به نفسه أو علمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف ” ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ” ا هـ .5- قال العيني في عمدة القارى عند شرح حديث القدم : ثم أعلن أن هذه الأحاديث من مشاهير أحاديث الصفات والعلماء فيها على مذهبين أحدهما مذهب المفوضة وهو الإيمان بأنها حق على ما أراد الله ولها معنى يليق وظاهرها غير مراد وعليه جمهور السلف .فتلحص فيما قدمنا أن الواجب علينا في آيات الصفات أن نؤمن بأنها حق على المعنى الذي أراده ونسكت عن مرادها دون أن نخوض في كشفه كما فعل المجسمة الكرامية أو نؤولها إلى المعنى يتفق مع تنزيه الله تعالى .مما يعجبنا كثيرا أنكم تنكرون لفظة ” الإستقرار ” عند تفسيركم الإستواء فرارا من التشبيه وأنتم في هذا مجانبون لما وجدنا عليه آبائكم الأولين كأبن تيمية وعثمان بن سعيد الدارمي ، لكن لم تنفعكم هذه الحيلة لأنكم – وإن أنكرتم لفظ الإستقرار – تعتقدون معناه تماما بزعمكم أن الله عال على عرشه بذاته علوا حقيقيا ، والله لا يزول عن العرش ، والعرش لا يخلو عن الله منذ أن خلق السموات والأرض ، وهل من بيان أكمل من هذا لإثبات معنى الإستقرار؟أنقل لكم في هذا المقام كلاما نفيسا لأبن عربي رحمه الله في إبطال قول المشبهة بأن الله على العرش حسا عند شرح حديث النزول ما نصه : ( تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير ، فتعدوا عليه بالقول النكير ،وقالوا ( في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات )قلنا : هذا جهل عظيم ، وإنما قال ينول إلى السماء ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ولا كيف ينزل .قالوا: وحجتهم ظاهر قول الله تعالى ” الرحمن على العرش استوى “قلنا: وما العرش في العربية ؟ وما الإستواء ؟قالوا : كما قال الله تعالى ” لتستووا على ظهوره ” .قلنا : إن الله تعالى تنزه أن يمثل إستواءه على عرشه بإستوائنا على ظهور الركائب.قالوا: كما قال الله تعالى ” واستوت على الجودي ” .قلنا : تعالى الله أن يكون مالسفينة جرت حتى لمست فوقفت .قالوا: وكما قال ” فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك “قلنا : معاذ الله أن يكون استواءه كإستواء نوح وقومه لأن هذا كله استواء مخلوق بإرتفاع وتمكن في مكان وإتصال ملامسة . وقد اتفقت الأمة من قبل سماع الحديث ومن بعده على أنه ليس إستواؤه على شيء من ذلك فلا يضرب له المثل بشيء من خلقه .قالوا: قال الله عز وجل ” ثم استوى إلى السماء ” .قلنا : تناقضت تارة تقولون إنه على العرش فوق السماء ثم تقولون : إنه في السماء لقوله تعالى ” أأمنتم من في السماء ” وقلتم : إن معناه على السماء .قالوا: اجتمع الموحدون على أن يرفعوا أيديهم في الدعاء إلى السماء ، ولولا ما قال موسى ” إلهي في السماء ” لفرعون ما قال ” يا هامان ابن لي صرحا ” .قلنا: كذبتم على موسى ماقالها قط ، ومن يوصلكم إليه ، إنما أنتم أتباع فرعون الذي أعتقد أن الباري في جهة فأراد أن يرقى إليه بسلم ، فهنيئا لكم أنكم أتباع فرعون وأنه إمامكم . واحتجوا بقول أمية بن أبي الصلت حيث قال :فسبحان من لايقدر الخلق قدره **** ومن هو فوق العرش فرد موحدمليك على عرش السماء مهيمن **** لعزته تعنو الوجوه وتسجدقالوا: وهو قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور .قلنا : هذا الذي يليق بجهلكم أن تحتجوا بقول فرعون ، ثم تثنوا بقول ملحد جاهل ، وتحيلون به على التوراة والإنجيل المبدلة المحرفة ، وأنتم تعلمون أن اليهود أعرق خلق الله كفرا وتشبيها له بخلقه .والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شيء معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتعين بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول قدوس لا يتغير ولا يستحيل .)) إنتهى كلام ابن عربي رحمه الله تعالى .قد نقل صاحب الرسالة القشيرية عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه ما نصه :من زعم أن الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك إذ لو كان على شيء لكان محمولا ولو كان في شيء لكان محصورا ولو كان من شيء لكان محدثا . ا هـ .قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى ” ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم ” ما نصه : وقد جمع في هذه الآية بين ” اسنوى على العرش ” وبين ” وهو معكم ” والأخذ بالظاهرين تناقض . فدل على أنه لا بد من التأويل ،والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض . وقال الإمام أبوالمعالي الجويني : إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت . ا هـ . الجامع لأحكام القرآن ( 9/461).أشار الإمام القرطبي إلى أن ظاهر قوله تعالى ” استوى على العرش ” يوهم أن الله متحيز في السماء ، وظاهر قوله تعالى ” وهو معكم ” يوهم أنه تعالى متحيز في الأرض وكلاهما مستحيلان والأخذ بالظاهرين تعارض يصادم القرآن الكريم الذي قال فيه منزله تعالى ” لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ” فظاهرهما غير مراد ، فوجب تأويلهما إجماليا كان أو تفصيليا ولو كان الله تعالى فوق العرش حسا عندما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى مكان المناجاة فوق السموات السبع لكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليه تعالى من يونس بن متى عليه السلام . ويؤيد قول الجويني رحمه الله هذا ما قال النبي صلىالله عليه وسلم لأصحابه ” لا تفضلوني على يونس بن متى ” حيث خص اسمه بالذكر دون غيره من سائر الأنبياء فالقرب بالمسافة متسحيل في حق الله تعالى لأنه ليس حالا في مكان ما ، لكان جائز بالعلم والحفظ والعناية .يا مشبهة ! قد نقلتم عن الإمام القرطبي أنه قال عند تفسيره قوله تعالى ” ثم استوى على العرش ” إن السلف قد أثبتوا الجهة لله تعالى لكنكم ما أتقنتم قراءة كلامه كله تحت تفسيره الآية المذكورة في سورة الأعراف لأنه قال بعد ذلك : قلت: علوه وارتفاعه عبارة عن علو مجد وصفاته وملكوته .فتبين أن القرطبي ما أراد بما نقلتموه عنه إلا أن السلف قد أثبتوا جهة العلو لله تعالى معنى لا حسا كما قال الحافظ ابن حجر نقلا عن الكرماني في فتح الباري ( 413/13) ما نصه : قوله: في السماء ، ظاهره غير مراد إذ الله منزه عن الحلول في المكان لكن لما كانت جهة علو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى العلو الذات والصفات . لأن منهجه في آيات الصفات كلها في الجامع لأحكام القرآن يثبت أنه مؤول ومنزه لله تعالى عن الحلول في المكان ، وعرفتم ذلك مما نقلنا من تفسريه لقوله تعالى ” وهو معكم ” في سورة الحديد ، وقوله تعالى ” ثم استوى على العرش ” في سورة الأعراف ، وننقل لكم أيضا من أقواله ما يؤيد دعوانا .أنظروا ما يقول القرطبي عنج تفسيره قوله تعالى ” أأمنتم من في السماء ” ما نصه : قال ابن عباس ” أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه ” وقيل : تقديره أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته . وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أنه الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظمونه في الأرض . وقيل : هو إشارة إلى الملائكة .وقيل : إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب .قلت : ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون . وقال المحققون : أأمنتم من فوق السماء ، كقوله ” فسيحوا في الأرض ” أي فوقها لا بالمساسة والتحيز لكن بالقهر والتدبير . وقيل : معناه أأمنتم من على السماء كقوله تعالى ” ولأصلبنكم في جذوع النخل ” أي عليها . ومعناه أنه مديرها ومالكها كما يقال : فلان على العراق والحجاز أي واليها وأميرها .والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند . والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت . ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام . وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته ، كما جعل الله الكعبة قبله للدعاء والصلاة ، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان . ولا مكان له ولا زمان . وهو الآن على ما عليه كان . ا هـ ( الجامع لأحكتم القرآن 18/216)* قال عند تفسيره قوله تعالى ” تعرج الملائكة والروح إليه ” ما نصه : وقوله ” إليه ” أي إلى المكان الذي هو محلهم ،وهو في السماء ، لأنها محل بره وكرامته . وقيل : هو كقول إبراهيم ” إني ذاهب إلى ربي ” أي إلى الموضع الذي أمرني به . وقيل : ” إليه ” أي إلى عرشه . ا هـ ( الجامع لأحكام القرآن 18/245 )* قال عند تفسيره قوله تعالى ” وهو العلي العظيم ” ما نصه : وقد حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلي عن خلقه بإرتفاع مكانه عن أماكن خلقه . قال ابن عطية : هذا قول جهلة المجسمين وكان الوجه ألا يحكى . اهـ ( الجامع لأحكام القرآن 3/278)يا مشبهة !! قد اتضح لكم ومن معكم ممن يثبت لله العلو المكاني من الجهلة المجسمين على حد قول ابن عطية رحمه الله صاحب المحرر الوجيز والإمام القرطبي رحمه الله .يا مشبهة ! قد حاولتم أن تظهروا للناس أن هذا الإمام المؤول المنزه مثبت المكان لله تعالى وأنتم لا تدرون ما هو منهجه في آيات الصفات لكن بائت هذه المحاولة السقيمة بالفشل وما هي إلا تمويه الحق وإظهار الباطل في زي الحق زذلك من التقاليد التي لا يزال الوهابية يحافظون عليها منذ القدم . ولا يتم غرضهم إلا بها .الإستواء صفة فعلالآن نمشي آخذين بيدكم إلى نقطة مهمة تثبت بكل صراحة ووضوح أنه لا مباشرة بين ذات الله تعالى وعرشه بإستوائه عليه . وانظروا بإمعان إلى ماقاله الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/356-357 ) ” وقد قسم البيهقي وجماعة من أئمة السنة جميع الأسماء المذكورة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة على قسمين :أحدهما : صفات ذاته ما اتصف به دون ضده وهو الأظهر كالحياة والقدرة والوجه واليد.وثانيهما : صفات فعله ما اتصف به وبضده وهو الصوب كالرضا والغضب ، وتعريف الإمام الرافعي أشمل ، وهو قوله ” الصفات الحسية والصفات المعنوية “.وقال : ولا يجوز وصفه إلا بما دل عليه الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة أو أجمع عليه ، ثم منه ما اقترنت به دلالة العقل كالحياء والقدرة والعلم والإدارة والسمع والبصر والكلام من صفات فعله . وكالخلق والرزق والإحياء والإماتة والعفو والعقوبة من صفات فعله . ومنه ما ثبت بنص الكتاب والسنة كالوجه واليد والعين من ضفات ذاته ، وكالإستواء والنزول والمجيىء من صفات فعله ، فيجوز إثبات هذه الصفات لثبوت الخبر بها ، على وجه ينفي عنه التشبيه . فصفة ذاته لم تزل موجودة بذاته ولا تزال ، وصفة فعله ثابتة عنه ، ولا يحتاج في الفعل إلى مباشرة ” اهـوكذا ننظر إلى ما قال الإمام فخرالدين الرازي رحمه الله في قوله تعالى ” ثم استوى على العرش ” ما نصه :” أن قوله تعالى ” ثم استوى على العرش ” يدل على انه قبل ذلك ما كان مستويا عليه ، وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال وكل من كان متغيرا كان محدثا ، وذلم بالإتفاق باطل … أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض لأن كلمة ( ثم ) تقتضي التراخي ، وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيا عن العرش فإذا حلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الإستغناء إلى الحاجة . فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرا على العرش ، فثبت بهذه الوجوه لا يمكن حملها على ظاهرها بالإتفاق وإذا كان كذلك امتنع الإستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى ” . اهـ.إن إمامنا أهل السنة أبا الحسن الأشعري رحمه الله أيضا قد مال إلى أن الإستواء صفة فعل حيث ذهب إلى أن الله جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه إستواء كما فعل في غيره فعلا سماه : رزقا ونعمة أو غيرهما من أفعاله ، ثم لك يكيف الإستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل ، لقوله تعالى ” ثم استوى على العرش ” وثم للتراخي ، والتراخي إنما يكون في الأفعال ، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة . ا هـ الأسماء والصفات للبيهقي ( 407-410)وقد اتضح مما قدمنا أن الإستواء صفة فعل وأن صفات فعله تعالى كلها حادثة متجددة بخلاف صفات ذاته وهي قديمة قائمة بذاته . فإذا رزق الله أحدا في ناحية من أنحاء الأرض لا يفهم أحد أعطى مسكة من العقل أن الله يجيء بذاته إلى مكان مرزوقه مباشرة ويعطيه الطعام بنفسه بلا واسطة . وكذا إذا فعل أي شيء من الخلق والإحياء والإماتة والعقاب والثواب وغيرها لا تكون مباشرة بين ذات الله وبين ذات مخلوقه ، وكذا الإستواء من أفعاله تعالى فلا مباشرة بين ذات الله وبين عرشه كما لا تكون المباشرة الذاتية بين الخالق ومخلوقه عنج خلقه وبين الرازق ومرزوقه عند رزقه .يا مشبهة أسألكم سؤالا لا تطيب بها نفسي وذلك : قد ثبت أن الإستواء على العرش كان بعد خلق السموات والأرض بدليل كلمة ( ثم ) . أين كان الله تعالى في الأيام الستة التي خلق فيها السموات والأرض وقبل خلقهن وقبل خلق العرش فإذا قلتم : لم يزل الله في الأزل مستويا على العرش والعرش ما خلا عنه قط لزم أن يشارك العرش الله تعالى في صفته القدم الذي لا يختص به إلا هو فهذا باطل بالإتفاق ، وإذا قلتم : استوى على العرش بذاته بعد أن لم يكن مستويا عليه قبل خلقه أثبت لذاته الله التغير وهذا أيضا باطل لأن التغير من صفات الحوادث .والآن ننقل لكم ما يثبت أن الله منزه عن المكان بالعقل . قال الشيخ سعيد فودة في كتابه ” حسن المحاججة في بيان أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ” ما نصه : ” فنقول : ولما خلق الله العالم كيف تقولون إنه خلقه تحته وصار فوقه ؟إذن الله تعالى بعد أن لم يكن محدودا ، جعل نفسه محدودا ؟ – أي ذا غاية ونهاية – الله تعالى بعد أن لم يكن له تحت صار له تحت.الله تعالى بعد أن لم يكن في جهة صار في جهة.الله تعالى بعد أن لم يكن في مكان صار في مكان.إذن الله تعالى تأثر بوجود العالم وصار محدودا وفي مكان وفي جهة ….إلخ. وهذا في غاية القبح منكم أن جعلتم المخلوق يؤثر في الخالق ، فسبحان الله ثم تزعمون بعد ذلك أنكم تنزهون الله تعالى ، كلا إنكم مشبهون ، تصفون الله تعالى بصفات النقص ، التي يتنزه عن مثلها حتى مخلوقه ” اهـ.موقف إمامنا الأشعري من تنزيه الله عن المكانقد جمع إمامنا أبوالحسن الأشعري رحمه الله في كتابه ” رسالة أهل الثغر ” من المسائل الإعتقادية ما أجمع عليه أهل القرون الثلاثة المفضلة سلف هذه الأمة فقال في الإجماع الخامس ما يلي : ” ولا يجب أن تكون أعراضا لأنه عز وجل ليس بجسم ، وإنما توجد الأعراض في الأجسام …. وهذا يستحيل عليه ( كما لا يجب ) أن تكون نفس الباري عز وجل جسما أو جوهرا ، أو محدودا ، أوفي مكان دون مكان ، أو في غير ذلك مما لا يجوز عليه من صفاتنا لمفارقته لنا ” .موقف جمعية العلماء بسريلانكا من تنزيه الله عن المكانقد أصدرت الجمعية سنة 1399 هـ الموافقة 1979 م فتوى معنونة بالتدسيس على التوحيد تحكم على القائلين بالحلول والإتحاد بالردة ، وأعدها العلامة عبدالصمد بن محمد إبراهيم المخدومي الشافعي رحمه الله المتوفى سنة 1417 هـ الموافق 1996 م ، وذكر فيها ( ص 14 ) ما يلي ناقلا عن الجامع الصغير للسيوطي : ” اتفق العقلاء من أهل السنة الشافعية والحنفية والمالكية وفضلاء الحنابلة على أن الله تبارك وتعالى منزه عن الجهة والجسمية والحد والمكان ومشابهة مخلوقاته ” . ا هـ