فلم أزل أتردد بين التجاذب بين شهوات الدنيا والدواعي قريباً من ستة أشهر: أولها رجب من سنة ست وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إليَّ فكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها ألبتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب بطلت معه قوة الهضم ومري الطعام والشراب، وكان لا تنساغ لي شربة ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى ذلك إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم في العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سري إلى المزاج فلا سبيل إليه بالعلاج إلا أن يتروح السر عن الهم المهم؛ ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن المال والجاه والأهل والأولاد، وأظهرت غرض الخروج إلى مكة وأنا أدبر في نفسي سفر الشام، حذراً من أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على غرضي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، وأستهزأ بي أئمة العراق كافة، إذ لم يكن فيهم من يجوّز أن يكون الإعراض عما كنت فيه سبباً دينياً، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين، فكان ذلك هو مبلغهم من العلم، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، فظن من بعد عن العراق أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة، وأما من قرب منهم فكان يشاهد لجاجهم في التعلق بي والإنكار عليّ وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى قولهم، فيقولون هذا أمر سماوي ليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام وزمرة أهل العلم، ففارقت بغداد وفارقت ما كان معي من مالي ولم أدخر من ذلك إلا قدر الكفاف وقوت الأطفال، ترخصاً بأن مال العراق مرصد للمصالح لكونه وقفاً على المسلمين، ولم أر في العالم ما يأخذ العالم لعياله أصح منه.
ثم دخلت الشام وأقمت فيه قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة اشتغالاً بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق وتصفية القلب لذكر الله تعالى كما كنت حصلته من علم الصوفية، وكنت أعتكف مدة بمسجد في دمشق أصعد منارة المسجد طول النهار وأغلق بابها على نفسي، ثم تحرك بي داعية فريضة الحج والاستمداد من بركات مكة والمدينة، وزيارة النبي بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه وسلامه، وثم صرت إلى الحجاز، ثم جذبتني الهمم ودعوات الأطفال إلى الوطن، وعاودته بعد أن كنت أبعد الخلق عن أن أرجع إليه، وآثرت العزلة حرصاً على الخلوة وتصفية القلب للذكر وكانت حوادث الزمان ومهمات العيال وضرورات المعيشة تغير في وجه المراد وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أوقات متفرقة، لكني مع ذلك لا أقطع طمعي عنها، فيدفعني عنها العوائق وأعود إليها، ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي ينبغي أن نذكره لينتفع به أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرتهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلاً؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به، وبالجملة؛ ماذا يقول القائل في طريقة أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحرم في الصلاة استغراق القلب بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله تعالى، وهو أقواها بالإضافة إلى ما تحت الاختيار. انتهى.
قال العراقي: فلما نفذت كلمته وبعد صيته وعلت منزلته وشدت إليه الرحال وأذعنت له الرجال، شرفت نفسه عن الدينار واشتاقت إلى الأخرى، فاطّرحها وسعى في طلب الباقية، وكذلك النفوس الزكية، كما قال عمر بن عبد العزيز: إن لي نفساً تواقة، لما نالت الدنيا تاقت إلى الآخرة.
قال بعض العلماء: رأيت الغزالي رضي الله عنه في البرية وعليه مرقعة وبيده عكاز وركوة، فقلت له: يا إمام أليس التدريس ببغداد أفضل من هذا؟ فنظر إليَّ شزراً وقال: لما بزغ بدر السعادة في فلك الإرادة وظهرت شموس الوصل:
تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل
وعدت إلى مصحوب أول منزلِ
ونادتني الأشواق مهلاً فهذه
منازل من تهوى رويدك فانزلِ