بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيِّدنا محمد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلام الله عليهم أجمعين
أما بعدُ، فقد قال اللهُ تبارك وتعالى في محكم التنزيل : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ (سورة ءال عمران). صدق الله العظيم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَن رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » رواه مسلم.
قال رسول الله: « إذا رأيتَ أُمّتي تَهاب أن تقولَ للظّالم يا ظَالم فقَد تُوُدِّع منهم » رواه الحاكم.
أنظر : أهميّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بداية أمر ابن تيمية
ليعلم أن أحمد بن تيمية هذا الذي هو حفيد الفقيه المجد بن تيمية الحنبلي المشهور، ولد بحران ببيت علم من الحنابلة، وقد أتى به والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفا من المغول، وكان أبوه رجلا هادئا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولّوه عدة وظائف علمّية مساعدة له، وبعد أن مات والده ولّوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل حضروا درسه تشجيعا له على المضيّ في وظائف والده وأثنوا عليه خيرا كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس- وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد، ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عيّن الآخرون في وظائفه للقِىَ عياله البؤس والشقاء.
وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم.
بداية انحراف ابن تيمية
لكِّنَّ ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بِدعا بين حِينٍ وآخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلّوا عنه واحدا إثر واحد على توالي فتنه.
ردود العلماء على ابن تيمية
ثم إنّ ابن تيمية وإن كان ذاع صيته وكثرت مؤلفاته وأتباعه، هو كما قال فيه المحدث الحافظ الفقيه وليّ الدين العراقي ابن شيخ الحفّاظ زين الدين العراقي في كتابه الأجوبة المرضيّة على الأسئلة المكيّة : “علمه أكبر من عقله“، وقال أيضا : “إنّه خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسألة بعضها في الأصول وبعضها في الفروع خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها“. اهـ. وتبعه على ذلك خلقٌ من العوام وغيرهم، فأسرع علماء عصره في الردّ عليه وتبدِيعه، منهم الإمام الحافظ تقي الدين علي ابن عبد الكافي السُّبكي قال في مقدمة الدُرَّة المضية ما نصّه : “أما بعد، فإنه لمّا أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب و السُّنة، مظهرا أنه داع ٍ إلى الحقّ هاد ٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسميّة والتركيب في الذات المقدّس، وأن الافتقار إلى الجزء (أي افتقار الله إلى الجزء) ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن مُحدَث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قِدَم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادثٍ لا أول لها ، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نِحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم هِمّة، وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تَقِلَّ جملته بالنسبة لما أحدث في الفروع “. اهـ.
ابن تيمية شذ في الأصول والفروع
وقد أورد كثيرا من هذه المسائل الحافظ أبو سعيد العلائي شيخ الحافظ العراقي، نقل ذلك المحدِّث الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في ذخائر القصر (مخطوط ص/69)، قال ما نصه : “ذِكرُ المسائل التي خالف فيها ابن تيمية الناس في الأصول والفروع، فمنها ما خالف فيها الإجماع، ومنها ما خالف فيها الراجح من المذاهب، فمن ذلك: يمين الطلاق، قال بأنه لا يقع عند وقوع المحلوف عليه بل عليه فيها كفارة يمين، ولم يقل قبله بالكفارة أحد من المسلمين البتة، ودام إفتاؤه بذلك زمانا طويلا وعظم الخطب، ووقع في تقليده جمّ غفير من العوام وعمّ البلاء. وأنَّ طلاق الحائض لا يقع وكذلك الطلاق في طهر جامع فيه زوجته، وأن الطلاق الثلاث يرد إلى واحدة، وكان قبل ذلك قد نقل إجماع المسلمين في هذه المسألة على خلاف ذلك وأنَّ من خالفه فقد كفر، ثم إنه أفتى بخلافه و أوقع خلقا كثيرا من الناس فيه. و أنَّ الحائض تطوف في البيت من غير كفارة وهو مباح لها. وأنَّ المكوس حلال لمن أقطعها، وإذا أخذت من التجار أجزأتهم عن الزكاة وإن لم تكن باسم الزكاة ولا على رسمها. وأنَّ المائعات لا تنجس بموت الفأرة ونحوها فيها وأن الصلاة إذا تركت عمدا لا يشرع قضاؤها. وأنَّ الجنب يصلي تطوعه بالليل بالتيمم ولا يؤخره إلى أن يغتسل عند الفجر وإن كان بالبلد، وقد رأيت من يفعل ذلك ممن قلَّده فمنعته منه. وسئل عن رجل قدّم فراشا لأمير فتجنب بالليل في السفر، ويخاف إن اغتسل عند الفجر أن يتهمه أستاذه بغلمانه فأفتاه بصلاة الصبح بالتيمم وهو قادر على الغسل. وسئل عن شرط الواقف فقال : غير معتبر بالكلية بل الوقف على الشافعية يصرف إلى الحنفية وعلى الفقهاء يصرف إلى الصوفية وبالعكس، وكان يفعل هكذا في مدرسته فيعطي منها الجند والعوام، ولا يحضر درسا على اصطلاح الفقهاء وشرط الواقف بل يحضر فيه ميعادا يوم الثلاثاء ويحضره العوام ويستغني بذلك عن الدرس. وسئل عن جواز بيع أمهات الأولاد فرجحه وأفتى به.
ومن المسائل المنفرد بها في الأصول مسألة الحسن والقبح التي يقول بها المعتزلة، فقال بها ونصرها وصنف فيها وجعلها دين الله بل ألزم كل ما يبنى عليه كالموازنة في الأعمال.
وأما مقالاته في أصول الدين فمنها قوله : إنَّ الله سبحانه محل الحوادث، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا. وانه مركب مفتقر إلى ذاته افتقار الكل إلى الجزء. وان القرءان مُحدَث في ذاته تعالى. و أنَّ العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوق دائما، فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار. ومنها قوله بالجسمية والجهة والانتقال وهو مردود.
وصرَّح في بعض تصانيفه بأن الله تعالى بقدر العرش لا أكبر منه ولا أصغر، تعالى الله عن ذلك، وصنّفَ جزءا في أنَّ علم الله لا يتعلق بما لا يتناهى كنعيم أهل الجنة، وأنه لا يحيط بالمتناهي، وهي التي زلق فيها بعضهم، ومنها أنَّ الأنبياء غير معصومين، وأنَّ نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام ليس له جاه ولا يتوسل به أحد إلا ويكون مخطئا، وصنف في ذلك عدة أوراق. وأنَّ إنشاء السفر لزيارة نبينا صلى الله عليه و سلم معصية لا يقصر فيها الصلاة، وبالغ في ذلك ولم يقل بها أحد من المسلمين قبله. وأنَّ عذاب أهل النار ينقطع ولا يتأبد حكاه بعض الفقهاء عن تصانيفه. ومن أفراده أيضا أنَّ التوراة والإنجيل لم تبدل ألفاظهما بل هي باقية على ما أنزلت وإنما وقع التحريف في تأويلها، وله فيه مصنف، هذا ءاخر ما رأيت، وأستغفر الله من كتابة مثل هذا فضلا عن اعتقاده “. ا.هـ.
ابن حجر الهيتمي يذم ابن تيمية
وقال الشيخ ابن حجر الهيتمي في كتابه الفتاوى الحديثية (ص/116) ناقلا المسائل التي خالف فيها ابن تيمية إجماع المسلمين ما نصه : “وقال أن العالم قديم بالنوع ولم يزل مع الله مخلوقا دائما فجعله موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار تعالى الله عن ذلك، وقوله بالجسمية، والجهة والانتقال، وانه بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر، تعالى الله عن هذا الافتراء الشنيع القبيح والكفر البراح الصريح ” اهـ.
وقال أيضا ما نصه [الفتاوى الحديثية (ص/203)]: “وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله، وكيف تجاوز هؤلاء المُلحِدونَ الحُدُودَ وتعدوا الرسوم وخرقوا سِياج الشريعة والحقيقة فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم وليسوا كذلك ” اهـ.
وقال أيضا ما نصه [حاشية الإيضاح (ص/443)]: “ولا يغتر بإنكار ابن تيمية لسنّ زيارته صلى الله عليه وسلم فإنه عبدٌ أضله الله كما قال العز بن جماعة، وأطال في الرد عليه التقي السبكي في تصنيف مستقل، ووقوعه في حق رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس بعجيب فإنه وقع في حق الله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا، فنسب إليه العظائم كقوله: إن لله تعالى جهة ويدا ورجلا وعينا وغير ذلك من القبائح الشنيعة” اهـ.
استتابة ابن تيمية
وقد استُتيب مرات وهو ينقض مواثيقه وعهوده في كل مرة حتى حُبِس بفتوى من القضاة الأربعة الذين أحدهم شافعي والآخر مالكي، والآخر حنفي والآخر حنبلي وحكموا عليه بأنه ضال يجب التحذير منه كما قال ابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ وهو من تلامذة ابن تيمية وسيأتي، وأصدر الملك محمد بن قلاوون منشورا ليقرأ على المنابر في مصر وفي الشام للتحذير منه ومن أتباعه.
صورة استِتابة ابن تيميةوهذه صورة استتابته منقولة من خط يده كما هي مسجلة في كتاب نجم المهتدي وعليها توقيع العلماء ونصها [نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/630-631)]: “الحمد الله، الذي أعتقده أن في القرءان معنى قائم بذات الله وهو صفة من صفات ذاته القديمة الأزلية وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وليس هو حالا في مخلوق أصلا ولا ورق ولا حبر ولا غير ذلك، والذي أعتقده في قوله: ﴿ الرحمن على العرش استوى ﴾ [سورة طه] آية 5 أنه على ما قال الجماعة الحاضرون وليس على حقيقته وظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا يعلم ذلك إلا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء أقول فيه ما أقول فيه لا أعرف كنه المراد به بل لا يعلم ذلك إلا الله، وليس على حقيقته وظاهره كما قال الجماعة الحاضرون، وكل ما يخالف هذا الاعتقاد فهو باطل، وكل ما في خطي أو لفظي مما يخالف ذلك فهو باطل، وكل ما في ذلك مما فيه إضلال الخلق أو نسبة ما لا يليق بالله إليه فأنا بريء منه فقد تبرأت منه وتائب إلى الله من كل ما يخالفه. كتبه أحمد بن تيمية، وذلك يوم الخميس سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة. وكل ما كتبته وقلته في هذه الورقة فأنا مختار فى ذلك غير مكره. كتبه أحمد بن تيمية حسبنا الله ونعم الوكيل “.
صورة استِتابة ابن تيميةوبأعلى ذلك بخط قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ما صورته : اعترف عندي بكل ما كتبه بخطه في التاريخ المذكور. كتبه محمد بن إبراهيم الشافعي، وبحاشية الخط : اعترف بكل ما كتب بخطه، كتبه عبد الغني بن محمد الحنبلي. وبآخر خط ابن تيمية رسوم شهادات هذه صورتها : كتب المذكور بخطه أعلاه بحضوري واعترف بمضمونه، كتبه أحمد بن الرفعة.
صورة خط آخر: أقرّ بذلك، كتبه عبد العزيز النمراوي.
صورة خط آخر: أقرّ بذلك كله بتاريخه، علي بن محمد بن خطاب الباجي الشافعي.
صورة خط آخر: جرى ذلك بحضوري في تاريخه، كتبه الحسن بن أحمد بن محمد الحسيني.
وبالحاشية أيضا ما مثاله: كتب المذكور أعلاه بخطه واعترف به، كتبه عبد الله بن جماعة.
مثال خط آخر: أقرّ بذلك وكتبه بحضوري محمد بن عثمان البوريجبي ” اهـ.
وكل هؤلاء من كبار أهل العلم في ذلك العصر، وابن الرفعة وحده له “المطلب العالي في شرح وسيط الغزالي ” في أربعين مجلدا.
ولو لا أن ابن تيمية كان يدعو العامة إلى اعتقاد ضد ما في صيغة الاستتابة هذه بكل ما أوتي من حول وحيلة لما استتابه أهل العلم بتلك الصيغة وما اقترحوا عليه أن يكتب بخطه ما يؤاخذ به إن لم يقف عند شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توّج خطه قاضي القضاة البدر ابن جماعة بالعلامة الشريفة وشهد على ذلك جماعة من العلماء كما ذكرنا، وحفظت تلك الوثيقة بالخزانة الملكية الناصرية، لكن لم تمض مدة على ذلك حتى نقض ابن تيمية عهوده و مواثيقه كما هو عادة أئمة الضلال و رجع إلى عادته القديمة في الإضلال.
الحافظ السبكي يرد على ابن تيمية
قال الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في فتاويه (2/210) ما نصه : “وهذا الرجل- يعني ابن تيمية- كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه و سلم ، وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به، ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه كما في هذه المسألة- أي مسئلة في الميراث- ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جدا، وهو كان مكثرا من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارته واتساع خيال وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات ” اهـ.
قال صلاح الدين الصفدي تلميذ ابن تيمية والتقي السبكي في أعيان العصر وأعوان النصر [(1/66) مخطوط] ما نصه : “انفرد- أي ابن تيمية- بمسائل غريبة، ورجح فيها أقوالا ضعيفة، عند الجمهور معيبة كاد منها يقع في هوّة، ويسلم منها لما عنده من النية المرجوة، والله يعلم قصده وما يترجح من الأدلة عنده، وما دمّر عليه شىء كمسألة الزيارة، ولا شُنّ عليه مثلها إغارة، دخل منها إلى القلعة معتقلا، وجفاه صاحبه وقلا، وما خرج منها إلا على الآلة الحدباء، ولا درج منها إلا إلى البقعة الجدباء” ا.هـ. قال ذلك فيه بعد مدحه مدحا كثيرا.
الذهبي مدح ابن تيمية في أول الأمر ثم عاد وذمه.
وكان الذهبي وهو من معاصري ابن تيمية مدحه في أول الأمر ثم لمّا انكشف له حاله قال في رسالته بيان زغل العلم والطلب (ص/17- 18) ما نصه: “فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وءاثام أصدقائهم، وما سلّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون، فلا تكن في ريب من ذلك “. اهـ. وهذه الرسالة ثابتة عن الذهبي لأن الحافظ السخاوي نقل عنه هذه العبارة في كتابه الإعلان بالتوبيخ (ص/77)، وقال: “وقد رأيت له- أي للذهبي- عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة ” اهـ.
ومن جملة ما يقوله الذهبي في حق ابن تيمية ما نقله الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة (1/151) عنه ونصه : “وأنا- أي الذهبي- لا أعتقد فيه عصمة بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية” اهـ.
فتبين أن الذهبي ذمّه لأنه خاض بالفلسفة والكلام المذموم أي كلام المبتدعة في العقيدة كالمعتزلة والمشبهة، وهذا القدح في ابن تيمية من الذهبي يضعف الثناء الذي أثنى عليه في تذكرة الحفاظ بقوله: “ما رأت عيناي مثله وكأن السُّنّة نصب عينيه”.
كلام الحافظ ابن حجر في ابن تيمية
ولنذكر فيما بعد ما قيل في ترجمة ابن تيمية وفي حبوسه وقيام العلماء وولاة الأمر عليه.
قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة (1/144) في ترجمة ابن تيمية: “أحمد بن عبد الحليم ولد سنة 661 هـ ، وتحوّل به أبوه من حرّان سنة 67 فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الإربلي والمسلم بن علان وابن أبي عمرو والفخر في ءاخرين وقرأ بنفسه.
وأوّل ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية وبحثوا معه ومُنع من الكلام”.
واتفق أن الشيخ نصرًا المنبجي كان قد تقدم في الدولة لاعتقاد بيبرس الجاشنكير فيه، فبلغه أن ابن تيمية يقع في ابن العربي لأنه كان يعتقد أنه مستقيم وأن الذي ينسب إليه من الاتحاد أو الإلحاد من قصور فهم من ينكر عليه، فأرسل ينكر عليه وكتب إليه كتابا طويلا ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد، فعظم ذلك عليهم وأعانه عليه قوم ءاخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة وقعت منه في مواعظه وفتاويه، فذكروا أنه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال كنزولي هذا فنسب إلى التجسيم، ورده على من توسل بالنبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) أو استغاث، فأشخص من دمشق في رمضان سنة خمس وسبعمائة فجرى عليه ما جرى وحبس مرارا فأقام على ذلك نحو أربع سنين أو أكثر وهو مع ذلك يشتغل ويفتي، إلى أن اتفق أن الشيخ نصرا قام على الشيخ كريم الدين الآملي شيخ خانقاه سعيد السعداء فأخرجه من الخانقاه، وعلى شمس الدين الجزري فأخرجه من تدريس الشريفيّة، فيقال إن الآملي دخل الخلوة بمصر أربعين يوما فلم يخرج حتى زالت دولة بيبرس وخمل ذكر نصر وأطلق ابن تيمية إلى الشام. وافترق الناس فيه شيعا فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله إن اليد والقدم و الساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيز والانقسام، فقال: أنا لا أسلّم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام، فألزم بأنه يقول بتحيز في ذات الله. ومنهم من ينسبه إلى الزندقة لقوله إن النبي (صلّى الله عليه وسلّم) لا يستغاث به وأن في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم النبي صلى الله عليه و سلم لمجيب، وكان أشد الناس عليه في ذلك النور البكري فإنه لما عقد له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين يعزر، فقال البكري: لا معنى لهذا القول فإنه إن كان تنقيصا يقتل وإن لم يكن تنقيصا لا يعزر. ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في عليّ ما تقدم ولقوله: إنه كان مخذولا حيثما توجه، وإنه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها وإنما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنه كان يحب الرياسة، وإن عثمان كان يحب المال، ولقوله: أبو بكر أسلم شيخا لا يدري ما يقول وعليّ أسلم صبيا والصبي لا يصح إسلامه على قول)). انتهى كلام ابن حجر.
كلام ابن الوردي في ابن تيمية
قال ابن الوردي في تاريخه [المختصر في أخبار البشر (تاريخ ابن الوردي) (2/381)] ما نصه : “وفيها أي سنة ثمان عشرة وسبعمائة في جمادى الآخرة، ورد مرسوم السلطان بمنع الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق، وعقد لذلك مجلس نودي به في البلد. قلت: وبعد هذا المنع والنداء، أحضر إليّ رجل فتوى من مضمونها أنه طلق الرجل امرأته ثلاثا جملة بكلمة أو بكلمات في طهر أو أطهار قبل أن يرتجعها أو تقضي العدة، فهذا فيه قولان للعلماء أظهرهما أنه لا يلزمه إلا طلقة واحدة ولو طلقها الطلقة بعد أن يرتجعها أو يتزوجها بعقد جديد وكان الطلاق مباحا فإنه يلزمه، وكذلك الطلقة الثالثة إذا كانت بعد رجعة أو عقد جديد وهي مباحة فإنها تلزمه، ولا تحل له بعد ذلك إلا بنكاح شرعي لا بنكاح تحليل والله أعلم. وقد كتب الشيخ بخطه تحت ذلك ما صورته: هذا منقول من كلامي، كتبه أحمد بن تيمية. وله في الطلاق رخص غير هذا أيضا، لا يلتفت العلماء إليها ولا يعرجون عليها” اهـ.
ثم قال [المرجع السابق (2/398)]: ((وفيها- أي في سنة ست وعشرين وسبعمائة- في شعبان اعتقل الشيخ تقي الدين بن تيمية بقلعة دمشق مكرما راكبا، وفي خدمته مشد الأوقاف والحاجب ابن الخطير، وأخليت له قاعة ورتب له ما يقوم بكفايته، ورسم السلطان بمنعه من الفتيا، وسبب ذلك فتيا وجدت بخطه في المنع من السفر ومن إعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وحبس جماعة من أصحابه وعزر جماعة، ثم أطلقوا سوى شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية فإنه حبس بالقلعة أيضا)).اهـ.
الصفدي تلميذ ابن تيمية يصرح أن ابن تيمية حبس وسجن لأنه خالف علماء عصره وقال في حق الله ما لا يقال
قال صلاح الدين الصفدي تلميذ ابن تيمية والتقي السبكي كما تقدم في كتابه أعيان العصر وأعوان النصر [(1/ ق 34) مخطوط]: “وكان في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة قد قام عليه جماعة من الشافعية وأنكروا عليه كلاما في الصفات، وأخذوا فتياه الحموية وردوا عليه فيها، وعملوا له مجلسا فدافع الأفرم عنه ولـم يبلغهم فيه إربا، ونودي فـي دمشق بإبطال العقيدة الحموية، فانتصر له جاغان المشد وكان قد منع من الكلام.
ثم إنه جلس على عادته يوم الجمعة وتكلم، ثم حضر عنده قاضي القضاة إمام الدين وبحثوا معه وطال الأمر بينهم ثم رجع القاضي إمام الدين وأخوه جلال الدين وقالا: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئا عزرناه.
ثم إنه طلب إلى مصر هو والقاضي نجم الدين بن صَصرى وتوجها إلى مصر في ثاني عشر شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة فانتصر له الأمير سيف الدين سلار وحط الجاشنكير عليه وعقدوا له مجلسا انفصل على حبسه فحبس في خزانة البنود، ثم نقل إلى الإسكندرية في صفر سنة تسع وسبعمائة ولم يمكّن أحد من أصحابه من التوجه معه، ثم أفرج عنه وأقام بالقاهرة مدة ثم اعتقل أيضا ثم أفرج عنه في ثامن شوال سنة تسع وسبعمائة أخرجه الناصر لمَّا ورد من الكرك، وحضر إلى دمشق فلما كان في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة جمع الفقهاء والقضاة عند الأمير سيف الدين تنكر وقرىء عليهم كتاب السلطان وفيه فصل يتعلق بالشيخ تقي الدين بسبب فتياه في مسئلة الطلاق وعوتب على فتياه بعد المنع، وانفصل المجلس على تأكيد المنع. ثم إنه في يوم الخميس ثاني عشري شهر رجب الفرد سنة عشرين وسبعمائة عقد له مجلس بدار السعادة وعاودوه في فتيا الطلاق عليها وعاتبوه لأجلها. ثم إنه حبس بقلعة دمشق وأقام بها إلى يوم الاثنين يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين وسبعمائة فأخرج من القلعة بعد العصر بمرسوم السلطان وتوجه إلى منزله، وكانت مدة سجنه خمسة أشهر وثمانية عشر يوما، ولما كان في يوم الاثنين بعد العصر سادس شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة في أيام قاضي القضاة جلال الدين القزويني تكلموا معه في مسئلة الزيارة وكتب في ذلك إلى مصر، فورد مرسوم السلطان باعتقاله في القلعة فلم يزل بها إلى أن مات في ليلة الاثنين عشري ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة بقلعة دمشق في القاعة التي كان بها محبوسا. ومولده بحران سنة إحدى وستين وستمائة، وأول ما اجتمعثُ أنا به كان في سنة ثمان عشرة أو سبع عشرة وهو بمدرسته في القصاعين بدمشق المحروسة وسألته مسألة مشكلة في التفسير ومسألة مشكلة في الإعراب ومسألة مشكلة في الممكن والواجب وقد ذكرت ذلك في ترجمته في تاريخي الكبير. ثم اجتمعت به بعد ذلك مرات وحضرت دروسه في الحنبلية، فكنت أرى منه عجبا من عجائب البر والبحر ونوعا فردا وشكلأ غريبا”. ا هـ.
وأمر ابن تيمية كما قال الحافظ الفقيه المجتهد تقي الدين السبكي ما نصه [فتاوى السبكي (2/210)]: “وحُبِسَ بإجماع العلماء وولاة الأمور” اهـ.