"عقيدة الشيخ أحمد بن تيمية الحراني"
" هل كان ابن تيمية مجسما"
نسبة ابن تيمية إلى التجسيم ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) حين قال: ((وافترق الناس فيه - أي: ابن تيمية - شيعاً: فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك، كقوله إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله, وأنّه مستو على العرش بذاته. فقيل له: يلزم من ذلك التحيّز والانقسام، فقال: أنا لا أُسلّم أنّ التحيّز والانقسام من خواص الأجسام. فألزم بأنّه يقول بتحيّز في ذات الله...))(1).
أيضاً قال ابن الوردي في (تتمّة المختصر): ((استدعي الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر, وعقد له مجلس, واعتقل بما نسب إليه من التجسيم))(2).
وجاء في (تاريخ أبي الفداء): ((وفيها استدعي تقيّ الدين أحمد بن تيمية من دمشق إلى مصر، وعقد له مجلس، وأُمسك وأُودع الاعتقال بسبب عقيدته؛ فإنّه كان يقول بالتجسيم))(3).
وعن اليافعي في (مرآة الجنان) عند ذكره لحوادث سنة 705هـ وما جرى فيها لابن تيمية: ((وكان الذي ادّعى به عليه - أي: على ابن تيمية - بمصر أنّه يقول: إنّ الرحمن على العرش استوى حقيقة, وإنّه يتكلّم بحرف وصوت، ثمّ نودي بدمشق وغيرها: من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه))(4).
وعلى أيّة حال, كلام ابن تيمية في التجسيم يقسّم على أربعة أبعاد, وهي كما يلي:
1- إسناد المكان والجهة إلى الله تعالى.
2- زعمه أنّ الحوادث تقوم بالله سبحانه.
3- زعمه أنّ كلام الله تعالى بصوت وحرف.
4- كلامه في مسألة الجسم.
البعد الأوّل: قال ابن تيمية في (الرسائل التدمرية), وضمن عنوان: تنازع الناس في الجهة والتحيّز: ((... وقد علم أنّ ما ثمّ موجود إلاّ الخالق والمخلوق, والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى, ليس في مخلوقاته شيء من ذاته, ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة: أنّها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة: ما وراء العالم؟ فلا ريب أنّ الله فوق العالم مباين للمخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: الله في جهة: أتريد بذلك: أنّ الله فوق العالم؟ أو تريد به: أنّ الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأوّل، فهو حقّ, وإن أردت الثاني، فهو باطل, وكذلك لفظ التحيّز...))(5).. إلى آخر كلامه.
وجاء في كتاب (بيان تلبيس الجهمية): ((والبارئ سبحانه وتعالى فوق العالم فوقية حقيقية ليست فوقية الرتبة, كما أنّ التقدّم على الشيء، قد يقال: إنّه بمجرّد الرتبة، كما يكون بالمكان، مثل تقدّم العالم على الجاهل، وتقدّم الإمام على المأموم، فتقدّم الله على العالم ليس بمجرّد ذلك، بل هو قبله حقيقة، فكذلك العلو على العالم، قد يقال: إنّه يكون بمجرّد الرتبة، كما يقال: العالم فوق الجاهل, وعلو الله على العالم ليس بمجرّد ذلك، بل هو عالٍ عليه علوّاً حقيقياً، وهو العلو المعروف والتقدّم المعروف))(6).
قال الكوثري في تعليقه على هذا النص: ((فهل يشكّ عاقل أنّ ابن تيمية يريد بذلك الفوقية الحسّية، والعلو الحسّي - تعالى الله عمّا يؤفكون - واستعمال العلو ومشتقّاته في اللّغة العربية بمعنى: علوّ الشأن، في غاية الشهرة، رغم تقوّل المجسّمة))(7).
وذكر الحافظ أبو حيّان في تفسيره (النهر الماد) عند تفسير قوله تعالى: (( وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ )) (القرة:255)، أنّه قرأ في رسالة بخطّ ابن تيمية قوله: ((إنّ الله يجلس على العرش, وقد أخلى مكاناً يقعد فيه معه رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم) ))(
.
قال الزبيدي في (إتحاف السادة المتّقين بشرح إحياء علوم الدين): ((قال السبكي: وكتاب العرش من أقبح كتبه, ولمّا وقف عليه الشيخ أبو حيّان ما زال يلعنه حتّى مات, بعد أن كان يعظّمه))(9).
وقد ذكر هذا الكتاب - أي كتاب العرش - صاحب (كشف الظنون) الذي جمع أسماء الكتب ومصنّفيها, حيث قال: ((كتاب العرش وصفته... ولابن تيمية، ذكر فيه أنّ الله تعالى يجلس على الكرسي، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله(صلّى الله عليه وسلّم)، ذكره أبو حيّان في النهر في قوله سبحانه وتعالى: (( وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ ))، وقال: في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته بخطّه))(10).
وقفة قصيرة لبيان تناقضات ابن تيمية:
وكيفما كان, فقد حكم ابن تيمية بكفر وضلالة من خالفه في رأيه المتقدّم في الجهة والحيّز، إذ قال:
((فصل: وأمّا قولهم الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي عن الله التحيّز.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أنّ هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كتب الله المنزّلة من عنده, ولا هو مأثور عن أحد من أنبياء الله ورسله، ولا خاتم المرسلين، ولا غيره, ولا هو أيضاً محفوظاً عن أحد من سلف الأُمّة وأئمّتها أصلاً..
وإذا كان بهذه المثابة, وقد علم أنّ الله أكمل لهذه الأُمّة دينها, وأنّ الله بيّن لهذه الأُمّة ما تتّقيه، كما قال: (( اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم )) (المائدة:3), وقال: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوماً بَعدَ إِذ هَدَاهُم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ )) (التوبة:115)، وأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) بيّن للأُمّة الإيمان الذي أمرهم الله به، وكذلك سلف الأُمّة وأئمّتها.. علم بمجموع هذين الأمرين: أنّ هذا الكلام ليس من دين الله, ولا من الإيمان, ولا من سبيل المؤمنين, ولا من طاعة الله ورسوله.
وإذا كان كذلك فمن التزم اعتقاده فقد جعله من الإيمان والدين, وذلك تبديل للدين، كما بدّل من بدّل من مبتدعة اليهود والنصارى، ومبتدعة هذه الأُمّة دين المرسلين.
إلى أن يقول في بيانه للوجه الثاني: وليس في شيء من ذلك نفي الجهة والتحيّز عن الله, ولا وصفه بما يستلزم لزوماً بيّناً نفي ذلك, فكيف يصحّ مع كمال الدين وتمامه، ومع كون الرسول قد بلّغ البلاغ المبين, أن يكون هذا من الدين والإيمان ثمّ لا يذكره الله ولا رسوله قطّ؟
وكيف يجوز أن يدعى الناس ويؤمرون باعتقادٍ في أُصول الدين ليس له أصل عمّن جاء بالدين.. هل هذا إلاّ صريح تبديل الدين؟))(11).
فكما ترى أنّ ابن تيمية ينكر أشدّ الإنكار على من ينفي الجهة والتحيّز عن الله تعالى, فيلزمه - على هذا - القول بإثبات الجهة والتحيّز, فحيث نفى نفي الجهة لم يبق إلاّ الإثبات, وعلى هذا يمكن أن نقول: إنّه قال بثبوت الجهة والتحيّز هنا، باعتبار لازم كلامه, ولا سيّما أنّه قد عدّ الخارجين على رأيه خارجين على دين الله, فنفاة الجهة والتحيّز عنده قد بدّلوا دين الله على زعمه, فلم يبق إلاّ أن يثبتهما هو ليحافظ على دين الله من التبديل!!
وقد وسم ابن تيمية في الوجه الرابع الطالبين باعتقاد نفي الجهة والحيّز عن الله تعالى بالأئمّة المضلّين, وأنّهم يأمرون الناس بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون(12).
إلاّ أنّ ابن تيمية ناقض نفسه في ما بنى عليه هناك من حمل الألفاظ على ظواهرها حقيقة, ولم يثبت لله صفة المعية بمرادها الحقيقي, بل تهافت في ذلك وفسّرها - كما قال - بما تدلّ عليه الحال في قوله تعالى: (( لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )) (التوبة :40) بمعية الاطّلاع والتأييد والنصر!!
وهذا تناقض فاضح, وتحكّم ظاهر في تفسير آيات الكتاب الكريم, وحكم على نفسه بنفسه - وحسب أقواله - بأنّه مبتدع وضال، قال: ((ولمّا قال النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) لصاحبه في الغار: (( لاَ تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )), كان هذا أيضاً حقّاً على ظاهره, ودلّت الحال على أنّ حكم هذه المعية هنا: معية الاطّلاع والتأييد والنصر))(13).
ولا ندري لِمَ لَم تسعف الحال ابن تيمية في صفة الفوقية هناك، فينفي عن المولى سبحانه ما يقتضيه معناها الذي هو من لوازم الأجسام، أو لوازم أعراض الأجسام؟! وهو حمل محال, ويحملها على ما يمكن حمله عقلاً وشرعاً كما فعل مع صفة المعية هنا!
قال الغزالي في (إلجام العوام): ((إذا سمع لفظ الفوق في قوله تعالى: (( يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوقِهِم )) (النحل:3) ، وفي قوله تعالى: (( وَهُوَ القَاهِرُ فَوقَ عِبَادِهِ )) (الأنعام:18)، فليعلم أنّ الفوق اسم مشترك يطلق لمعنيين: أحدهما: نسبة جسم إلى جسم، بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل, يعني: أنّ الأعلى من جانب رأس الأسفل.. وقد يطلق لفوقية الرتبة, وبهذا المعنى يقال: الخليفة فوق السلطان, والسلطان فوق الوزير, وكما يقال العلم فوق العمل.
(والأوّل) يستدعي جسماً ينسب إلى جسم.
(والثاني) لا يستدعيه.. فليعتقد المؤمن قطعاً أنّ الأوّل غير مراد, وأنّه على الله تعالى محال؛ فإنّه من لوازم الأجسام أو لوازم أعراض الأجسام))(14).
البعد الثاني: (وهو زعمه: أنّ الحوادث تقوم بالله تعالى):
قال العلاّمة الحلّي(رحمه الله) - الذي يردّ عليه ابن تيمية في (منهاج السُنّة) -: ((وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث, لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره))(15).
فقال ابن تيمية: ((فيقال: هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون...- إلى أن قال:- فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالربّ, قالوا لكم [قلنا لكم] (16): نعم, وهذا قولنا الذي دلّ عليه الشرع والعقل))(17).
وقال أيضاً: ((فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به!
قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمّة؟ ونصوص القرآن والسُنّة تتضمّن ذلك مع صريح العقل, وهو قول لازم لجميع الطوائف, ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزومه, ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله منزّه عن ذلك... ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك ممّا دلّ عليه الكتاب والسُنّة))(18).
وقد بيّن مذهب ابن تيمية في قيام الحوادث بالله أحد المدافعين عنه، وهو محمّد خليل هراس بقوله: ((فهل يجوّز ابن تيمية قيام الحوادث بذاته تعالى؟
الجواب: إنّ ابن تيمية لا يرى من ذلك مانعاً, لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل, بل يرى أنّ العقل والنقل متضافران على وجوب قيام الأُمور الاختيارية به تعالى..
وأمّا تلك المقدّمة القائلة: إنّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث, فهي صحيحة إن أُريد بها: آحاد الحوادث وأفرادها المتعاقبة في الوجود؛ فإنّ لكلّ واحد منها مبدأ ونهاية, فما لم يخل منها فهو إمّا أن يكون معها أو بعدها, وعلى التقديرين يكون حادثاً.
وأمّا إن أُريد: جنس الحوادث، فهي باطلة؛ فإنّ الجنس يجوز أن يكون قديماً, إن كان كلّ فرد من أفراده حادثاً, حيث أنّه لا يلزم من حدوث كلّ فرد حدوث الجملة, لأنّ حكم الجملة؛ غير حكم الأفراد))(19).
إلاّ أن هذا الشيخ المدافع عن عقائد ابن تيمية والمؤيّد لها, لم يطمئن لعقيدته هذه, وقال: إنّها مبتنية على قاعدة يصعب تصوّرها, إذ عقّب بالقول: ((إنّ ابن تيمية قد بنى على هذه القاعدة (قدم الجنس وحدوث الأفراد) كثيراً من العقائد, وجعلها مفتاحاً لحلّ مشاكل كثيرة في علم الكلام, وهي قاعدة لا يطمئنّ إليها العقل كثيراً؛ فإنّ الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة، فإذا فرض أنّ كلّ فرد منها حادث، لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً)).
ثمّ قال: ((فإنّ ابن تيمية بعد أن أورد المذاهب المختلفة أخذ في تقرير مذهبه الذي يدّعي أنّه مذهب السلف, ولكن عليه من المآخذ ما سبق أن أشرنا إليه من تجويز قيام الحوادث بذاته تعالى, وابتنائه على تلك القاعدة الفلسفية التي تقول بقدم الجنس مع حدوث أفراده, وهي قاعدة يصعب تصوّرها، كما قلنا))(20).
وهذه العقيدة قد تابع فيها ابن تيمية الكرامية, وهم من المجسّمة!
قال الكوثري في (الردّ على النونية): ((اتّفقت فرق المسلمين، سوى الكرامية وصنوف المجسّمة، على أنّ الله سبحانه منزّه عن أن تقوم به الحوادث، وأن يحلّ به الحوادث, وأن يحلّ في شيء من الحوادث, بل ذلك ممّا علم من الدين بالضرورة))(21).
وقال تقي الدين السبكي: ((وأمّا الحشوية, فهي طائفة رذيلة جهّال ينتسبون إلى أحمد, وأحمد مبرّأ منهم, وسبب نسبتهم إليه أنّه قام في دفع المعتزلة, وثبت في المحنة(رضي الله عنه), ونقلت عنه كليمات ما فهمها هؤلاء الجهّال، فاعتقدوا هذا الاعتقاد السيّء, وصار المتأخّر منهم يتبع المتقدّم إلاّ من عصمه الله, وما زالوا من حين نبغوا مستذلّين ليس لهم رأس ولا من يناظر... - إلى أن يقول:- ثمّ جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطّلاع, ولم يجد شيخاً يهديه, وهو على مذهبهم، وهو جسور، متجرّد لتقرير مذهبه, ويجد أُموراً بعيدة فبجسارته يلتزمها, فقال بقيام الحوادث بذات الربّ سبحانه وتعالى, وأنّ الله سبحانه ما زال فاعلاً, وأنّ التسلسل ليس بمحال في ما مضى، كما هو في ما سيأتي, وشقّ العصا، وشوّش عقائد المسلمين, وأغرى بينهم, ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام، حتّى تعدّى وقال: إنّ السفر لزيارة النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) معصية))(22).
وعلى أيّة حال, فدعوى ابن تيمية قيام الحوادث بالله تعالى معناه: قيام المخلوق بذات الله تعالى؛ لأنّ الحادث مخلوق, ومعناه: قيام الناقص بالكامل, وبعبارة أُخرى: اتّصاف الله الكامل بالناقص, وهذا خلف، كونه كاملاً.
مع أنّ دليل ابن تيمية يحمل بطلانه معه, وقد اقترب من تقرير بطلانه محمّد خليل هراس بنفسه, وهو أحد أتباعه؛ إذ الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة, فإذا تقرّر أن كلّ فرد منها حادث، لزم من ذلك حدوث الجملة قطعاً, فعلى هذا يستحيل وجود حوادث لا أوّل لها.
البعد الثالث: (زعمه: أنّ كلام الله تعالى بصوت وحرف):
يقول ابن تيمية كما في (فتاويه الكبرى): ((وأنّ الله تعالى متكلّم بصوت، كما جاءت به الأحاديث الصحاح, وليس ذلك كأصوات العباد, لا صوت القارئ ولا غيره))(23).
قال: ((عن أبي سعيد الخدري: قال رسول الله(صلّى الله عليه وسلم): يقول الله: يا آدم, فيقول: لبّيك وسعديك. فينادى بصوت: إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذرّيتك بعثاً إلى النار))(24).
قال: ((ويذكر عن جابر بن عبد الله, عن عبد الله بن أنيس: سمعت النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك, أنا الديّان))(25).
ابن تيمية يناقض نفسه:
ونبدأ هنا بذكر تناقض ابن تيمية وردّه على نفسه؛ فإنّ التناقض هو أوّل مراتب الفساد، كما يقول هو نفسه.
يقول ابن تيمية كما في فتاويه: (( (الوجه الرابع عشر): وأمّا قولهم: ولا يقول: أنّ كلام الله حرف وصوت قائم به، بل هو معنى قائم بذاته.
فقد قلت في الجواب المختصر البديهي: ليس في كلامي هذا أيضاً, ولا قلته قط, بل قول القائل: إنّ القرآن حرف وصوت قائم به بدعة, وقوله: إنّه معنى قائم به بدعة, لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا, وأنا ليس في كلامي شيء من البدع, بل في كلامي ما أجمع عليه السلف: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق))(26).
ثمّ نتساءل: هل الادّعاء بأنّ كلام الله بصوت وحرف، ثمّ القول بعد ذلك: لا كأصواتنا ولا كحروفنا.. هل هذا كافٍ في التنزيه ونفي التشبيه؟ لنترك ابن تيمية يجيب على هذا التساؤل ليكون حجّة على نفسه..
قال: ((.. وأمّا في طرق الإثبات, فمعلوم أيضاً أنّ المثبت لا يكفي في إثباته مجرّد نفي التشبيه؛ إذ لو كفى في إثباته مجرّد نفي التشبيه, لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى ممّا هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه, وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه, وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم, ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم, كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلّم لا ككلامهم, ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم, كما قيل: له وجه لا كوجوههم, ويدان لا كأيديهم، حتّى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك, ممّا يتعالى الله عزّ وجلّ عنه سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً..))(27).
إذاً, التسليم بالاشتراك في المعنى العام، وهو: الصوت والحرف, ثمّ القول بأنّه: لا كالأصوات ولا كالحروف.. هذا لا ينفي التشبيه، وإن ادّعى صاحبه ذلك.. لأنّ ما سلّم به هو: معنى من معاني الحدوث, فكأنّه يقول: حادث لا كالحوادث, وهذا تناقض صريح.. باعتبار ما أقرّ به ابن تيمية نفسه.
ثمّ نسأل ابن تيمية: هل هناك وجه لمخالفة صوته (تعالى الله عن ذلك) لأصواتنا؟
هنا يجيب ابن تيمية بنقل قول البخاري: ((وفي هذا دليل على أنّ صوت الله لا يشبه أصوات الخلق, لأنّ صوت الله يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب))(28).
فلا وجه إذاً للمخالفة.. غير أنّ صوته يسمع من قرب كما يسمع من بعد..
ولا ندري ماذا يكون موقف ابن تيمية في ما توصّل إليه البشر من تقريب الأصوات، حتّى سمعت من بعد كما سمعت من قرب بوسائل الإعلام والاتّصال الحديثة؟ هل كان يصرّ على رأيه بأنّ السماع من بعد كالسماع من قرب كافٍ في المخالفة للحوادث والتنزيه؟!!
الردّ على ابن تيمية في هذا الجانب:
نقل الكوثري عن أبي بكر ابن العربي في (العارضة) ما يلي: ((لا يحلّ لمسلم أن يعتقد أنّ كلام الله صوت وحرف, من طريق العقل والشرع, فأمّا طريق العقل، فلأنّ الصوت والحرف مخلوقان محصوران, وكلام الله يجلّ عن ذلك كلّه. وأمّا طريق الشرع، فلأنّه لم يرد في كلام الله صوت وحرف من طريق صحيحة.. ولهذا لم نجد طريقاً صحيحاً لحديث ابن أنيس، وابن مسعود))(29)..
وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث في نظرهم.
وجزء (الصوت) للحافظ أبي الحسن المقدسي لا يدع أيّ متمسّك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين, ومن رأى نصوص فتاوى العزّ بن عبد السلام وابن الحاجب الحصيري والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل التحقيق - كما هو مدوّن في (نجم المهتدي)، و(دفع الشبه) وغيرهما - يعلم مبلغ الخطورة في دعوى أنّ كلام الله حرف وصوت قائمان به تعالى...
ولا تصحّ نسبة الصوت إلى الله تعالى إلاّ نسبة مُلك وخَلق. لكن هؤلاء السخفاء رغم تضافر البراهين ضدّهم, ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها, يعاندون الحقّ, ويظنّون أنّ كلام الله من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه باللهاة واللسان, تعالى الله عن ذلك. ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم، أو التشبيه بابن آدم.. (( أُولَئِكَ كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ )) (الأعراف:179).
يقول الكوثري: ((بل من قال: إنّ كلام معبوده حرف وصوت قائمان به، فهو الذي نحت عجلاً جسداً له خوار, يحمل أشياعه على تعبّده))(30).
ويقول: ((إنّ كان يريد حديث جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس: (ويحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب...) الحديث.. فهو حديث ضعيف علّقه البخاري بقوله: ويُذكَر عن جابر, دلالة على أنّه ليس من شرطه, ومداره عن: عبد الله بن محمّد بن عقيل, وهو ضعيف باتّفاق, وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد، وعنه قالوا: إنّه ممّن لا يحتجّ به. وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في الحديث المذكور.
وأمّا إن كان يريد حديث أبي سعيد الخدري: (يقول: يا آدم! يقول: لبّيك وسعديك، فينادى بصوت: إنّ الله يأمرك...) الحديث. فلفظ (ينادى) فيه على صيغة المفعول جزماً، بدليل (إنّ الله يأمرك)، ولو كان على صيغة الفاعل لكان: إنّي آمرك, كما لا يخفى.
على أنّ لفظ (صوت) انفرد به حفص بن غياث, وخالفه وكيع وجرير وغيرهما، فلم يذكروا الصوت, وسئل أحمد عن حفص هذا فقال: كان يخلط في حديثه، كما ذكره ابن الجوزي. فأين حجّة الناظم في مثله؟
على أنّ الناظم نفسه خرّج في (حادي الأرواح) وفي هامشه أعلام الموقّعين (2 - 97) عن الدارقطني من حديث أبي موسى: (يبعث الله يوم القيامة منادياً بصوت يسمعه أوّلهم وآخرهم: أنّ الله وعدهم...) الحديث. وهذا يعيّن أنّ الإسناد مجازي على تقدير ثبوت الحديثين.. فظهر بذلك أنّ الناظم متمسّك في ذلك بالسراب))(31).
ويقول تقيّ الدين السبكي: ((اللفظ الذي في البخاري: (فينادى بصوت)، وهذا محتمل لأن تكون الدال مفتوحة، والفعل لم يسمّ فاعله, وإن تكون مكسورة، فيكون المنادي هو الله تعالى. فنقله عن البخاري نداء الله ليس بصحيح، والعدالة في النقل أن ينقل المحتمل محتملاً. وإذا ثبت أنّ الدال مكسورة، فلِمَ يقول: إنّ الصوت منه؟ فقد يكون من بعض ملائكته، أو من يشاء الله..))(32).
وقد ذكر القاضي الباقلاني البصري المتوفى سنة 403هـ، في كتابه (الإنصاف)، فيضاً من الأدلّة على تنزيه الله عن الحرف والصوت.. ونقل من ذلك قول الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام): (إنّ الله كلّم موسى(عليه السلام) بلا جوارح، ولا أدوات، ولا حروف، ولا شفة، ولا لهوات, سبحانه عن تكيّف الصفات)(33).
وقال في (الإنصاف): ((وأيضاً: فإنّ الحروف تحتاج إلى مخارج, فحرف الشفة غير حرف اللسان, وحرف الحلق غيرهما, فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج, وهو منزّه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عمّا يشركون.
وأيضاً: فإنّ الحروف متناهية معدودة محدودة, وكلام الله تعالى قديم، لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه, كعلمه وقدرته، ونحو ذلك من صفات ذاته, وقد أكّد تعالى ذلك بغاية التأكيد, وأنّ كلامه لا يدخله العدّ والحصر والحدّ، بقوله تعالى: (( قُل لَو كَانَ البَحرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحرُ قَبلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَو جِئنَا بِمِثلِهِ مَدَداً )) (الكهف:109)، وقال: (( وَلَو أَنَّمَا فِي الأَرضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلاَمٌ وَالبَحرُ يَمُدُّهُ مِن بَعدِهِ سَبعَةُ أَبحُرٍ مَا نَفِدَت كَلِمَاتُ اللَّهِ )) (لقمان:27)، فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنّه لا نهاية لكلامه؛ إذ كلّ ما له نهاية له بداية, وإنّما تتصوّر النهاية في حقّ من يتصوّر في حقّه البداية))(34).
وقد ردّ الباقلاني على ما أورده المخالفون من الأحاديث, وأجاب بأجوبة عديدة، منها: ما ردّ به على استدلالهم بحديث ابن أنيس؛ قال: ((قد روى فيه ما يدلّ على أنّ الصوت من غير الله بأمره؛ لأنّه روي: إذا كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، يأمر منادياً فينادي، فصحّ أنّ النداء من غيره, لكن لمّا كان بأمره أُضيف النداء إليه، كما يقال: نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا.. ويقال: أمر الخليفة منادياً فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا.. ولا فرق بين الموضعين. فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ الخليفة لم يباشر النداء بنفسه, لكن لمّا كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه وأن يضاف إليه، وإن لم يكن هو المنادي بنفسه.
ويصحّح جميع ذلك القرآن؛ قال الله تعالى: (( وَاستَمِع يَومَ يُنَادِ المُنَادِ مِن مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَومَ يَسمَعُونَ الصَّيحَةَ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَومُ الخُرُوجِ )) (ق:41-42)، فأضاف النداء إلى المنادي، فصحّ أنّ الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء، ومن عجيب الأمر أنّ الجهّال لا يجوّزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا، كالخليفة والأمير، وينفون عنه ذلك, ثمّ يجوّزونه في حقّ ربّ العالمين!
- إلى أن قال:- جواب آخر: وهو أنّ كلّ ما أُضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له, فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة؛ لأنّ الخبر قد جاء بقول الله تعالى: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني, جعت فلم تطعمني, عطشت فلم تسقني, عريت فلم تكسني)، فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر.. ومن زعم أنّه يجوع ويعطش ويمرض ويعرى فقد كفر وأشرك لا محالة.
وكذلك قال تعالى: (( يَومَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ )) (الأنعام:73)، على قراءة من قرأ بالنون [المفتوحة] والنافخ إسرافيل، وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللَّهَ )) (الأحزاب:57)، فأضاف الأذية إليه. ومن زعم أنّ الأذية من صفته فقد كفر لا محالة))(35).
البعد الرابع: كلامه في الجسم ونسبته لله تعالى:
قال ابن تيمية في تعريف الجسم: ((فإنّ الجسم عند أهل اللّغة - كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما - هو: الجسد والبدن؛ قال تعالى: (( وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم )) (المنافقون:4)، وقال تعالى: (( وَزَادَهُ بَسطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ )) (البقرة:247)، فهو يدلّ في اللّغة على معنى الكثافة والغلظ، كلفظ الجسد, ثمّ قد يراد به نفس الغليظ, وقد يراد به غلظه، فيقال: لهذا الثوب جسم, أي: غلظ وكثافة... ثمّ صار الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعمّ من ذلك, فيسمّون الهواء وغيره من الأُمور اللطيفة جسماً، وإن كانت العرب لا تسمّي هذا جسماً... - إلى أن قال:- والنظّار كلّهم متّفقون - في ما أعلم - على أنّ الجسم يشار إليه))(36).
فإذا كان هذا معنى الجسم عنده, فقد قال ما نصّه:
((وأمّا لفظ الجسم والجوهر والتحيّز والجهة ونحو ذلك, فلم ينطق كتاب ولا سُنّة بذلك في حقّ الله، لا نفياً ولا إثباتاً, وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمّة المسلمين، من أهل البيت وغير أهل البيت, فلم ينطق أحد منهم بذلك في حقّ الله، لا نفياً ولا إثباتاً))(37).
فهذه هي المرحلة الأُولى... فيكون النافي للجسمية عن الله تعالى مخالفاً للكتاب، وللسُنّة, ولإجماع الصحابة والتابعين, ولإجماع أهل البيت...
إذاً, ليس لأحد - لا من الشيعة ولا من السُنّة - أن يقول بنفي الجسمية عن الله عزّ وجلّ..
بل يصرّح بأنّ النفي - كالإثبات ــ: بدعة؛ فيقول: ((والكلام في وصف الله بالجسم نفياً وإثباتاً بدعة لم يقل أحد من سلف الأُمّة وأئمّتها: إنّ الله ليس بجسم، كما لم يقولوا: إنّ الله جسم))(38). [نقول: والحال أنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في تنزيه الله سبحانه عن الجسمية كثيرة جدّاً؛ فراجع خطب أمير المؤمنين في (نهج البلاغة)، و(كتاب التوحيد) لابن بابويه, و(الكافي) للكليني، وغيرها].
وفي المرحلة الثانية.. يقول منكراً على من يذمّ المجسّمة: ((وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة, فهذا لا يعرف في كلام أحدٍ من السلف والأئمّة, كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول: بأنّ الله جسم، أو ليس بجسم, بل ذكروا في كلامهم الذي أنكروه على الجهمية نفي الجسم))(39).
فهذا الكلام ميل إلى الإثبات, وإلاّ فإنّه يناقض كلامه السابق, في أنّ النفي والإثبات كليهما بدعة.
ثمّ يقول في موضع آخر: ((وإن قال: يستلزم أن يكون الربّ يشار إليه ترفع [برفع] الأيدي في الدعاء, وتعرج الملائكة والروح إليه, وعرج بمحمّد - صلّى الله عليه وآله وسلّم - إليه, وتنزل الملائكة من عنده, وينزل منه القرآن, ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسُنّة وما كان في معناها. قيل له: لا نسلّم انتفاء هذا اللازم))(40).
- إلى أن يقول:- ((وقد بُسط الكلام على هذه الأُمور في مواضع, وبُيّن أنّ ما ينفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسُنّة من علوّ الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك, كما أنّه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سُنّة رسوله، ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين, فلم يدلّ عليه أيضاً دليل عقلي, بل الأدلّة العقلية الصريحة موافقة للأدلّة السمعية الصحيحة...
- ثمّ قال:- وأمّا الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن - فيثبتون إثباتاً مفصّلاً وينفون نفياً مجملاً, يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل، وينفون عنه التمثيل, وقد علم أنّ التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسمّيها النفاة تجسيماً, ومع ذلك فلم ينكر رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - وأصحابه على اليهود شيئاً من ذلك, ولا قالوا: أنتم مجسّمون, بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبيّ - صلّى الله عليه وسلّم - شيئاً من الصفات أقرّهم الرسول على ذلك, وذكر ما يصدّقه..
كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الربّ سبحانه وتعالى للسماوات والأرض، المذكور في تفسير قوله تعالى: (( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ... )) (الأنعام:91). وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبيّ(صلّى الله عليه) من غير وجه, من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما.
ولو قدّر بأنّ النفي حقّ، فالرسل لم تخبر به، ولم توجب على الناس اعتقاده، (فمن اعتقده وأوجبه), فقد علم بالاضطرار (من دين الإسلام) أنّ دينه مخالف لدين النبيّ(صلّى الله عليه وسلّم) ))(41).
ثمّ إنه أفصح عن معتقده بوضوح أكثر، حيث قال: وأمّا قوله (أي: الباقلاني): ((فإن تعسّف من المقلّدين متعسّف، وأثبت للربّ تعالى جسماً مركّباً من أبعاض متألّفاً من جوارح, نقلنا الكلام معه إلى إبطال الجسم وإيضاح تقدّس الربّ عن التبعيض والتأليف والتركيب.
فيقال له: الكلام في وصف الله بالجسم نفياً وإثباتاً بدعة, لم يقل أحد من سلف الأُمّة وأئمّتها: إنّ الله ليس بجسم, كما لم يقولوا: إنّ الله جسم, بل من أطلق أحد اللفظين استفصل عمّا أراد بذلك, فإنّ في لفظ الجسم بين الناطقين به نزاعاً كثيراً؛ فإن أراد تنزيهه عن معنى يجب تنزيهه عنه, مثل: أن ينزّهه عن مماثلة المخلوقات, فهذا حقّ, ولا ريب أنّ من جعل الربّ جسماً من جنس المخلوقات فهو من أعظم المبتدعة ضلالاً, دع من يقول منهم أنّه لحم ودم ونحو ذلك من الضلالات المنقولة عنهم..
وإن أراد نفي ما ثبت بالنصوص وحقيقة العقل أيضاً ممّا وصف الله ورسوله منه وله, فهذا حقّ، وإن سمّي ذلك تجسيماً, أو قيل: إنّ هذه الصفات لا تكون إلاّ لجسم.
فما ثبت بالكتاب والسُنّة وأجمع عليه سلف الأُمّة هو حقّ, وإذا لزم من ذلك أن يكون هو الذي يعنيه بعض المتكلّمين بلفظ الجسم, فلازم الحقّ حقّ))(42).
ولا يخفى, أنّ هذا مبني على فهمه للنصوص فهماً ظاهرياً, وأنّ الألفاظ كلّها محمولة على المعاني الحقيقية ولا مجاز مطلقاً... فالنصوص - على هذا - غير دالّة على الجسمية, وإنّما جاءت الدلالة من فهم ابن تيمية منها.
وابن تيمية يثبت التركيب في حقّ الله تعالى.. وهو في إثباته التركيب يحاول جاهداً أن يبيّن أنّ ما أثبته من التركيب لا يتنافى مع الوحدة. وسنرى العجب في دفاعه!
يقول: ((ولكن إذا قلنا: إنّ الله لم يزل بصفاته كلّها, أليس إنّما نصف إلهاً واحداً بجميع صفاته؟ وضربنا لهم مثلاً في ذلك، فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة, أليس لها جذوع، وكرب، وليف، وسعف، وخوص، وجمار, واسمها اسم واحد سمّيت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك الله جلّ ثناؤه))(43).
ونقل عن أبي يعلى في كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات)، أنّه روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده إلى عكرمة، قوله:... وفي طريق آخر عن ابن فورك بسنده إلى عكرمة عن ابن عبّاس: ((إنّ الله إذا أراد أن يخوّف عباده أبدى عن بعضه...))، ثمّ ذكر أنّه قال: ((أمّا قوله: أبدى عن بعضه, فهو على ظاهره، وأنّه راجع إلى الذات))(44).
وممّا اهتمّ ابن تيمية به: إبطال القول بتماثل الأجسام.. فيقول: ((ولا ريب أنّ قولهم بتماثل الأجسام قول باطل..))، ثمّ قال: ((وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك)).. إلى أن قال: ((وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع, وبيّنا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام، وحجج من نفى ذلك.. وبيّنا فساد قول من يقول بتماثلها))(45).
ولنا أن نتساءل: ما صلة اهتمام ابن تيمية بإبطال مماثلة الأجسام بما يدّعيه من أنّه سلفي؟ وهل في كلامه هذا منهج للسلف؟
إن كان ابن تيمية نافياً عن الله الجسمية، فلا تضيره دعوى مماثلة الأجسام, ولا تثير قلمه, ولا توجب غضبه واستنكاره، وأمّا إن كان ابن تيمية ممّن يقول بإثبات الجسمية لله تعالى إلاّ أنّه يقول: جسم لا كالأجسام.. فما أحوجه إلى أن يكافح جاهداً في إبطال مماثلة الأجسام!
ويقول: ((ولهذا لمّا كان الردّ على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً, لم يسلكه أحد من السلف والأئمّة, فلم ينطق أحد منهم في حقّ الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً, ولا بالجوهر والتحيّز، ونحو ذلك.. لأنّها عبارات مجملة لا تحقّ حقّاً ولا تبطل باطلاً.. ولهذا لم يذكر الله في كتابه في ما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفّار ما هو من هذا النوع, بل هذا هو من الكلام المبتدع، الذي أنكره السلف والأئمّة..))(46).
فهو يرى أنّ الردّ على من وصف الله بالنقائص لا يكون بطريق نفي الجسيمة.. لأنّه طريق فاسد.. وكعادته يزعم أنّ ذلك لم يرد عن أحد من السلف. وأعجب من ذلك إقراره عقيدة اليهود في ما يتعلّق بالتجسيم.. بل جعل من ينكر على اليهود وغيرهم من المجسّمة مبتدعاً.. وكلام من ينكر التجسيم على معتقديه هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف.
فابن تيمية يرى أنّ عقيدة التجسيم عند اليهود وغيرهم لا يحقّ لمؤمن أن ينفيها, فإن قام مؤمن بنفيها يقال له: إنّك لم تبطل باطلاً ولم تحقّ حقّاً, بل سلكت طريقاً فاسدة وخالفت السلف.. بل أنت مبتدع!
ونحن نسأل ابن تيمية: هل القول بالتجسيم يكون اتّباعاً للسلف أم اتّباعاً لليهود؟!
ثمّ لنقرأ ما قاله في (الرسالة التدمرية): ((كقوله تعالى: (الله الصمد)، والصمد: الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب...)).. ثمّ قال: ((والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب, فالغني المنزّه عن ذلك منزّه عن آلات ذلك, بخلاف اليد فإنّها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل)).
فقد جعل ابن تيمية اليد آلة العمل.. فجعلها جارحة من الجوارح.. فهو على هذا يثبت آلة كمال وينفي آلة نقص.. لذلك قال بعد ذلك: ((وهو سبحانه منزّه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه))(47)؛ وهو هنا لا يدري أنّ التعبير بالآلة تجسيم ونقص ومحال.. والتعبير بلفظ الآلة إنّما هو من ابتداع ابن تيمية..
وإذا كان هذا شأن هذا الرجل في الفهم.. فلا عجب أن يترك من معاني الصمد: (المقصود في الحوائج) - وهو المروي عن أُبيّ، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وغيرهم - ويؤثر المعنى الذي ينضح بالتجسيم من قوله: ((الصمد: الذي لا جوف له)).