المروءة
إنها اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم، والشيطان الرجيم. فإن في النفس ثلاثة دواعٍ متجاذبة: داعٍ يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان: من الكبر، والحسد، والعلو، والبغي، والشر، والأذى، والفساد، والغش. وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الحيوان. وهو داعي الشهوة. وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الملك: من الإحسان، والنصح، والبر، والعلم، والطاعة.
فحقيقة المروءة: بغض ذينك الداعيين، وإجابة الداعي الثالث. وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل، من الأقوال، والأخلاق، والأعمال.[1]
واعتبرها أهل التصوف جُماع الأخلاق ومُنتهاها، ولحُمة الفضائل وسداها، وخُلُق الكرام، وأروع ما تحلّى به الرجال، فهي حِلية الفضلاء، وشِيمة النبلاء، بها تكمُلُ إنسانية الإنسان، ويتميز بها عن غيره من المخلوقات تميزا كبيرا.
وعرّفها كثير من أهل العلم بأنها هي: كمال الإنسان، من صدق اللسان، واحتمال عثرات الإخوان، وبذل الإحسان إلى أهل الزمان، وكف الأذى عن الأباعد والجيران.
قال الجنيد: "المروءة احتمال زلل الإخوان ".[2]
وقال الماوردي: "اعلم أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم: المروءة التي هي حلية النفوس وزينة الهمم، فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجّه إليها ذم باستحقاق".[3]
فالمروءة خلّة كريمة وخصلة شريفة، تحمل الإنسان على التمسك بالفضائل، والنفور من الرذائل، والتحلي بمحاسن الأخلاق، فهي صدق في اللسان، واحتمال لأخطاء الآخرين، وبذل للمعروف، وكفّ للأذى...
وجعلها ابن القيم على ثلاث درجات:
• الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يحملها قسرا على ما يجمل ويزين. وترك ما يدنس ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية. فمن أراد شيئا في سره وخلوته: ملكه في جهره وعلانيته. فلا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشّأ بصوت مزعج ما وُجد إلى خلافه سبيلا...
• الدرجة الثانية: المروءة مع الخلق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والخلق الجميل، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه. وليتخذ الناس مرآة لنفسه. فكل ما كرهه ونفر عنه، من قول أو فعل أو خلق، فليجتنبه. وما أحبّه من ذلك واستحسنه فليفعله.
• الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، بالاستحياء من نظره إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس، وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان.[4]
فالمروءة مع الله تعالى تكون بالاستحياء من الله تبارك وتعالى حق الحياء، وأن لا يقابل إحسانه ونعمته بالإساءة والكفران، والجحود والطغيان، بل يلتزم العبد أوامره ونواهيه، ويخاف منه حق الخوف في حركاته وسكناته وخلواته، وأن لا يراه حيث نهاه، ولا يفتقده حيث أمره.
أما المروءة مع النفس فتكون بحملها على ما يُجمِّلها ويُزيِّنها، وترك ما يدنِّسها، فيحرص على تزكيتها وتنقيتها، وحملها على الوقوف مواقف الخير والصلاح والبر والإحسان، مع الارتقاء بها إلى مراتب الحكمة والمسؤولية، لتكون الناصح الأكبر إليه والواعظ الأكبر له.
وتكون المروءة مع الخلق بإيفائهم حقوقهم على اختلاف منازلهم، والسعي في قضاء حوائجهم، ولطافة اللسان معهم، وسعة الصدر وسلامة القلب تجاههم، وقبول النصيحة منهم وستر عيوبهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
يظهر من خلال هذا التصنيف أن أخلاق الصوفية كلها محاطة بسياج المراقبة لله عز وجل، فالصوفي مستشعر ومستحضر لرقابة الباري جل وعلا، حتى في اتصافه بأجلِّ الأخلاق وأكرمها، حتى قيل: المروءة اجتناب ما يكره الله والمسلمون من الفعال، واستعمال ما يحب الله والمسلمون من الخصال.
• وقيل لبعض الحكماء: ما المروءة؟ قال: طهارة البدن، والفعل الحسن.
• وسئل بعضهم: أي الحلال أجمع للخير، وأبعد من الشر، وأحمد للعقبى؟ فقال: الجنوح إلى التقوى، والتحيّز إلى فئة المروءة.
• وقال بعض العلماء: اتّق مصارع الدنيا بالتمسك بحبل المروءة، واتّق مصارع الآخرة بالتعلُّق بحبل التقوى، تفُز بخير الدارين، وتحل أرفع المنزلتين.
وعليه تكون المروءة من أجلّ الأخلاق وأعلاها عند الصوفية وغيرهم، فهي تجمع أكمل الصفات والفضائل التي رغّب فيها الشرع الحنيف، ولها مدلولها الكبير والواسع، فهي تدخل في الأخلاق والعادات والأحكام والعبادات.
الهوامش
[1] ابن القيم: مدارج السالكين، 2/286.
[2] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص:200 .
[3] أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (ت450هـ): أدب الدنيا والدين، شرح وتعليق: محمد كريم راجح، دار إقرأ، بيروت، ط4، 1405هـ/1985م، ص: 325.
[4] ابن القيم: مدارج السالكين، 2/287-288.