يقف غير المتخصص في ألفاظ الصوفية واصطلاحاتهم وقفة الحائر القلق، بحيث يصعب عليه فهمها فهما دقيقا، وقد تظهر له هذه الألفاظ مخالفة لنصوص الشريعة وأحكامها، وذلك لأنها تعتمد على التجربة والمعرفة الذوقية، وهما أمران لا سبيل إلى الوصول إليهما وفقا لمعايير وأقيسة علمية منطقية...، فلكل فن من الفنون، أو علم من العلوم اصطلاحات خاصة به، لا يعلمها إلا أرباب ذلك العلم...
وهذه الألفاظ التي تداولها الصوفية هي أمور تحدّثوا بها من باب الإشارة أو الكناية أو المجاز، كما نرى ذلك في كثير من الكلام العربي، ونجده بارزا في كتاب الله تعالى في مواطن عديدة، كما في قوله تعالى: ﴿وأُشربوا في قلوبهم العجل﴾.[1] أي حب العجل. وقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾.[2] أي أهل القرية. وقوله تعالى: ﴿أو من كان ميِّتا فأحييناه﴾.[3] أي كان ميِّت القلب فأحياه الله تعالى. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة...
وقد قامت اصطلاحات الصوفية بعض الشيء مقام العبارة في تصوير مدركاتهم ومواجيدهم، حين عجزت اللغة عن ذلك، فلا بد لمن يريد الفهم عنهم من صحبتهم حتى تتضح له عباراتهم، ويتعرف على إشاراتهم ومصطلحاتهم، فيستبين له أنهم لم يخرجوا عن الكتاب والسنة، ولم ينحرفوا عن الشريعة الغراء، وأنهم هم الفاهمون لروحها، الواقفون على حقيقتها، الحارسون لتراثها.
قال بعض العارفين: " نحن قوم يحرم النظر في كتبنا على من لم يكن من أهل طريقنا".[4] لأن الغاية من تدوين هذه العلوم إيصالها لأهلها، فإذا اطّلع عليها من ليس من أهلها جهِلها، ثم عاداها، لأن الإنسان عدو لما جهل، ولذلك قال السيد علي بن وفا رحمه الله تعالى: "إن من دوّن المعارف والأسرار لم يدونها للجمهور، بل لو رأى من يطالع فيها ممن ليس هو بأهلها لنهاه عنها".[5]
وكلام الصوفية في تحذير من لا يفهم كلامهم، ولا يعرف اصطلاحاتهم من قراءة هذه الكتب ليس من قبيل كتم العلم، ولكن خوفا من أن يفهم الناس من كتبهم غير ما يقصدون، وخشية أن يؤولوا كلامهم على غير حقيقته، فيقعوا في الإنكار والاعتراض، شأن من يجهل علما من العلوم، لأن المطلوب من المؤمن أن يخاطب الناس بما يناسبهم من الكلام، وما يتفق مع مستواهم في العلم والفهم والاستعداد، ولهذا أفرد البخاري في صحيحه بابا لذلك فقال: "باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا".[6]
ومن الكلمات التي لها تأويل شرعي صحيح في اصطلاحات الصوفية: كلمة [مدد] التي يرددها بعضهم فينادي بها أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يخاطب بها شيخه.
وحجة المعترض عليهم أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله، واستعانة بسواه، ولا يجوز السؤال إلا له، ولا الاستعانة إلا به، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله".[7] ثم إن الله تعالى بيّن في كتابه العزيز أنه هو مصدر الإمداد حين قال: ﴿كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك﴾.[8]
وقد جهل هذا الصنف من الناس أن السادة الصوفية هم أهل التوحيد الخالص، الذين يأخذون بأيدي مريديهم ليذيقوهم حلاوة الإيمان، وصفاء اليقين، ويخلصوهم من شوائب الشرك بجميع صوره وأنواعه.
ولابد أولا من معرفة معنى هذه الكلمة [مدد] عند علماء اللغة، كي يتبين المعنى ويتضح اللبس:
فمعنى كلمة [مدد] يختلف باختلاف نية قائلها؛ فقد جاء في لسان العرب لابن منظور: "مددنا القوم: أي صرنا لهم أنصارا ومددا وأمددناهم بغيرنا".[9] وقال سيبويه: "المدد ما مدّهم به أو أمدّهم؛ والجمع أمداد، قال: ولم يجاوزا به هذا البناء، واستمدّه: طلب منه مددا، والمدد: العساكر التي تُلحق بالمغازي في سبيل الله.. والإمداد: أن يرسل الرجل للرجل مددا، تقول: أمددنا فلانا بجيش. قال الله تعالى: ﴿أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف﴾. وقال في المال: ﴿أيحسبون أنما نمدهم به من مال﴾. وقال تعالى وعلا: ﴿وأمددناكم بأموال وبنين﴾. فالمدد ما أمددت به قومك في حرب أو غير ذلك من طعام أو أعوان...".[10]
ومما تجدر الإشارة إليه هنا، أن هناك فرق بين مدد الخالق سبحانه ومدد المخلوق، فكلمة مدد تأتي بمعنى المساعدة والمعاونة وهي مستحبة في كل أنواع البر بجميع الطرق التي أجازها الشرع الحنيف، فاستعانة الناس بعضهم ببعض في الأمور لا مفر منها ولا غنى عنها والإنسان مأمور بها، ولاسيما في أمور البر والتقوى، فقد قال الله تعالى: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾،[11] فالتعاون بين الخلائق هو المدد، أي المساعدة ونصرة بعضهم لبعض، فلو طلب الإنسان من بني جنسه الإمداد فليس بمعنى أنه يطلب منه كما يطلب من ربه، ولكن بالمدد والقدرة التي أمده الله بها.
ولتوضيح المراد من كلمة [مدد] قيل: "لا بد للمؤمن في جميع أحواله أن تكون له نظرتان:
• نظرة توحيدية لله تعالى، بأنه وحده مسبب الأسباب، والفاعل المطلق في هذا الكون، المنفرد بالإيجاد والإمداد، ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحدا من خلقه، مهما علا قدره، أو سمت رتبته، من نبي أو ولي.
• ونظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته، حيث جعل لكل شيء سببا".[12]
وقد جعل الله تعالى في هذه الدنيا لخلقه ما جعل للملائكة الكرام عليهم السلام من وظائف وأعمال ظاهرية وباطنية، وزوّدهم بإمدادات وقدرات نورانية، فقد أكرم الله أنبياءه ورسله وأولياءه بشيء من الأسرار التي تجعلهم قائمين بها على نصرة دين الله، ويمدون بها من شاؤوا بإذن ربهم ورضاه؛ لإقامة دين الله جلّ جلاله.
فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها، ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي، فإذا نظر العبد إلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك، لأنه جعل الإله الواحد آلهة متعددة، وإذا نظر للمسبب وأهمل اتخاذ الأسباب فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سببا. والكمال هو النظر بالعينين معا، ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة:
إن الله تعالى وحده هو خالق البشر، ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سببا عاديا، وهو التقاء الزوجين، وتكوُّن الجنين في رحم الأم، وخروجه منه في أحسن تقويم، وكذلك فإن الله تعالى هو وحده المميت، ولكنه جعل للإماتة سببا هو ملك الموت، فإذا لاحظنا المسبب قلنا: ﴿الله يتوفى الأنفس﴾.[13] وإذا قلنا: إن فلانا قد توفاه ملك الموت، لا نكون قد أشركنا مع الله إلها آخر، لأننا لاحظنا السبب، كما بيّنه الله تعالى في قوله: ﴿قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكّل بكم﴾.[14]
كذلك بالنسبة للاستعانة، فإذا نظرنا للمسبب قلنا: "إذا استعنت فاستعن بالله"، الحديث.[15] وإذا نظرنا إلى السبب قلنا: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾.[16] "والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".[17] فإذا قال المؤمن لأخيه: أعِنِّي على حمل هذا المتاع، لا يكون مشركا مع الله تعالى أحدا، أو مستعينا بغير الله، لأن المؤمن ينظر بعينيه، فيرى المسبب والسبب، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضال مضل.
ومبدأ البركة أو المدد معروف في الفكر الإسلامي، قال عنه أبو حامد الغزالي: "أنه إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين، بل شفاعة العلماء والصالحين، وكل من له عند الله تعالى جاه وحسن معاملة، فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه، فكن حريصا على أن تكتسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة".[18]
وذكر محمد زكي إبراهيم أن طلب الدعاء والشفاعة من الحي أو روح الميت طلب عبودية لله، وهو مباح في مبادئ الإسلام، وطلب المدد من الحي معناه دعاؤه، وإرشاده، وروحانيته، وتوجهه، وبركة صلاحه، وتقواه، وسره مع الله، وطلب المدد من الميت طلب من روحه الحي بخصائصه في برزخه السامع المدرك الذي له ما يشاء عند ربه".[19]
فمعنى المدد هنا هو طلب التوسل إلى الله والاستشفاع به إليه عز وجل في قضاء الحوائج ودفع الجوائح، والتماس بركة مقامه عند الله تعالى، والاستمداد من مدد الله وسره. ﴿وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا﴾.[20]
والتوسل ليس معناه التوسل بالذات المشخصة من اللحم والدم والعظم والعصب، وإنما هو التوجه إلى الله تعالى بالمعنى الطيب في الإنسان، والمعنى الطيب ملازم للروح سواء تعلقت بالجسم في الحياة أو تخلصت منه بالموت واستقرت في برزخها على مقامها هناك...[21]
وهكذا، فليس اللفظ وحده بكاف لتطلَق أحكام الشرك والكفر على عباد الله، ولو كان ذلك كافيا لما عاتب حضرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ابن أبي شيبة الذي قتل رجلا بعد أن قال "لا إله إلا الله"، فلما سمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فما زال يكررها عليه حتى تمنى لو أنه أسلم يومئذ".[22]
ولهذا يؤكد أهل الطريقة على أن مسألة الحكم على إيمان الناس يجب أن تأخذ مسألة النوايا والمعتقدات القلبية بنظر الاعتبار، ولا تقف عند حدود الظن الذي نهى عنه الحق تعالى في قوله: ﴿يَا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم﴾.[23]
وقال تعالى حاكيا عن جبريل عليه السلام: ﴿قال إنما أنا رسول ربك لِأَهَبَ لَكِ غلاما زكيّا﴾.[24] هنا أسند جبريل عليه السلام الوهب لنفسه مع أن الوهاب الحقيقي هو الله تعالى...
وقال تعالى أيضا: ﴿ إِن تتوبا إِلَى الله فقد صغت قلوبكما وإن تَظَاهَرَا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير﴾.[25] وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة كلهم أعوان للرسول صلى الله عليه وسلم على من آذاه وأراد مساءته.[26]
وهو نص صريح في جواز الاستعانة بجبريل أو الملائكة أو صالح المؤمنين من الأولياء والصالحين، وما يؤكد هذا ويثبته أيضا، ما روي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله".[27]
وقد ثبت أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أريد مرافقتك في الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: "أعِنّي على نفسك بكثرة السجود".[28] أي العبادة.
فهذه كلها أدلة تؤكد مشروعية طلب المدد من الله تعالى عن طريق عباده الصالحين وأوليائه المتقين، وكل ذلك متوقف على حسب نية الإنسان واعتقاده...
الهوامـــــش:
[1]- سورة البقرة، الآية: 93.
[2]- سورة يوسف، الآية: 82.
[3]- سورة الأنعام، الآية: 122.
[4]- اليواقيت والجواهر، الشعراني، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 1424ھ-2003م، ص: 30.
[5]- المصدر السابق.
[6]- صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا، 1/46.
[7]- سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم الحديث: 2516.
[8]- سورة الإسراء، الآية: 20.
[9]- لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2009م، مادة: مدد، 3/488.
[10]- المصدر السابق لسان، مادة: مدد.
[11]- سورة المائدة، الآية: 2.
[12]- حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص:341.
[13]- سورة الزمر، الآية: 42.
[14]- سورة السجدة، الآية: 11.
[15]- سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم الحديث: 2516.
[16]- سورة المائدة، الآية: 2.
[17]- صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم الحديث: 2699.
[18]- إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، القاهرة، ط: 1425ھ-2004م، 5/205.
[19]- أصول الوصول، محمد زكي إبراهيم، تحقيق: سعيد المندوه، مطبوعات ورسائل العشيرة المحمدية، ط5، 1426ھ-2005م، ص: 224.
[20]- سورة الإسراء، الآية: 21.
[21]- أصول الوصول، محمد زكي إبراهيم، ص: 224.
[22]- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: "لا إله إلا الله"، رقم الحديث: 96.
[23]- سورة الحجرات، الآية: 12.
[24]- سورة مريم، الآية: 19.
[25]- سورة التحريم، الآية: 4.
[26]- تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبري، تحقيق: مكتبة التبيان للدراسات الإسلامية وتحقيق التراث، دار ابن الجوزي، القاهرة، ط1، 1430ھ-2009م، 26/129.
[27]- مجمع الزوائد، أبو بكر بن سليمان الهيثمي، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1422ھ-2001م، 10/138، رقم الحديث: 17104.
[28]- صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الصلاة، باب فضل السجود والحث عليه، رقم الحديث: 489.