كان ارتداء المرقعات شعارا لبعض الفئات من الصوفية،- دون أن يكون لهم أثر على الحياة الواقعية- وكان أساس التصوف عندهم هو التخلية قبل التحلية؛ بمعنى تخلية القلب والنفس من كل الشهوات والانقطاع عن الحياة وخرق العوائد...، لتحصل التزكية بالمقابل، وهي تحلية النفس بالأوصاف الحميدة، وسلوك طريق المقامات الذوقية والأحوال الشاقة، حتى وقع في ظن الناس- بسبب سلوك هؤلاء- أن التقشف ولبس المرقعات هو عنوان الدين والشرف والولاية، وأن التصوف يتعارض مع زينة الحياة وطيبها...
وهكذا أُعطيت صورة مشوهة عن السلوك الصوفي، حيث أصبح التصوف في نظر بعض الناس مجرد قشور ومظاهر، وأصبح ميزان العمل ما يلبس المرء لا ما يعتقد ويعمل، بدعوى أن السابقين كانوا يميلون إلى الاشتغال بالشؤون الأخروية، ويلبسون الثياب الخشنة كشعار للشرف والدين والعلم والولاية، فأصبح لأصحابها من المزية ما لم يدرك بعضه أصحاب التيجان والعروش، وكادت القلوب تطبق على أن كل فضل إنما هو في طبقة الزهاد والورعين، وأن الذين يلبسون الثياب الحسنة لا يمكن أن يتصفوا بصفة من صفات الولاية‼...
بيد أن التصوف من هذا وذاك براء، ولا صلة له بهذه الأقوال والأفعال المُشينة، بل إن الصوفية المعتمدين يفندون بأنفسهم هذه التُّهم الباطلة التي لا تمت إليهم ولا إلى التصوف بأدنى صلة..
لقد أخطأ هذا الصنف من الناس، فجعل التصوف غاية، ولبس المرقع من الثياب، وأكل الرديء من الطعام، وترك الكسب الحلال، وحسد أهل المال، وقلوبهم مفعمة بحب الدنيا، ظنّا منهم أن هذا هو السلوك الحق، وجهلا منهم بحقوق النفس، وإنما فعلوا ذلك لقلة العلم.
إنه ادعاء للزهد والتقشف، والزهد كما قال المناوي: "فراغ القلب من الدنيا لا فراغ اليد منها، وقد جهل قوم فظنوا أن الزهد تجنب الحلال، فاعتزلوا الناس وضيّعوا الحقوق، وقطعوا الأرحام، وجفوا الأنام، واكفهروا في وجوه الأغنياء وفي قلوبهم شهوة الغنى أمثال الجبال، ولم يعلموا أن الزهد إنما هو بالقلب، وأن أصله موت الشهوة القلبية، فلما اعتزلوها بالجوارح ظنوا أنهم استكملوا الزهد فأدّاهم ذلك إلى الطعن في الأئمة".[1] ناسين أو متناسين قول الله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم﴾؛[2]
فمثل هذه النظرة لا تقتصر على أنها انحراف في فكر أصحابها، وضيق في نظرتهم للإسلام، وقصور في فهم الدين والنظرة إلى الحياة وموقف الإسلام منها...، بل إنها تزداد وتمتد ليصيب الآخرين منها سهم النقد اللاذع في أفعالهم، والتي هي في عين الناقد تمتع بالدنيا على حساب الدين، وانصراف إليها وخروج عن الإطار الصحيح في التعامل مع الحياة من عزلة وتعبد وتقلل...
إن نظرة الصوفية للحياة الدنيا سواء من حيث المطعم أو الملبس أو المسكن...، هي نظرة توازن واعتدال، لا تغفل الدنيا لحساب الآخرة، ولا الآخرة لحساب الدنيا، ناهجين في ذلك نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم من كل حلال بنصيب معلوم، فتزوج النساء، وأكل الطيب من المأكل، ولبس البهيج من الملبس: "فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم، حُلّة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيرا".[3]
والمسلم مأمور بالسعي والعمل والاستمتاع بما يكسبه بسعيه وعمله، قال الله تعالى: ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا﴾،[4] وقال سبحانه عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم﴾.[5] وقال جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم﴾.[6]
وأيضا فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتّعات العباد، التي ذكرت المنّة بها، وقُرّرت عليهم، فُهم منها القصد إلى التنعم بها، لكن بقيد الشكر عليها...، والله عز وجل، أنكر على من حرّم شيئا مما بثّ في الأرض من الطيبات، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم، فقال تعالى: ﴿قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا﴾؛[7] أي خلقت لأجلهم ﴿خالصة يوم القيامة﴾؛[8]لا تِباعة فيها ولا إثم. فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها...، ثم إن هذه النعم هدايا من الله للعبد؛ وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد؟! هذا غير لائق في محاسن العادات، ولا في مجاري الشرع؛ بل قصد المهدي أن تقبل هديته، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه، فليَقْبَلْ، ثم ليشكر له عليها".[9]
وقد قال الشيخ عبد القادر الجيلاني- رضي الله عنه- وهو ينصح أحد غلمانه: "يا غلام، لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب والسر، وهو طلب الحق عز وجل، همك ما أهمك، فاجعل همك ربك عز وجل وما عنده".[10]
وقال الإمام الطوسي في كتابه: "اللمع": "وآداب الفقراء في اللباس، أن يكونوا مع الوقت، إذا وجدوا الصوف أو اللَبد أو المرقعة لبسوا، وإذا وجدوا غير ذلك لبسوا، والفقير الصادق أَيْشْ ما يلبس يحسن عليه، ويكون عليه في جميع ما يلبس الجلالة والمهابة، وإذا كان عليه فضل يواسي من ليس معه، ويؤثر على نفسه إخوانه بإسقاط رؤية الإيثار، ويتكلف للنظافة والطهارة...".[11]
فالصوفي-كما سبق وأشرنا إلى ذلك- يتماشى مع وقته ويواكب الأحداث والتطورات التي تجري حوله، وهو دائما في تجديد وتغيير مستمرين.
وأيضا جاء الصوفي الكبير الإمام الشاذلي- رحمه الله تعالى- مفنّدا افتراءات هؤلاء، ومُندّدا بهذا المذهب، يقول بلسان حاله: "يا قوم لا تجعلوا الملابس المخرقة عنوان الصلاح، فكم يلبسها من مُرائين ومتلصصين، ولا تتخذوا الملابس الحسنة دليلا على الغفلة عن الله، والميل عن طريقه إلى طريق الذين أسرفوا على أنفسهم، فإن من بين المتجملين من هو أعلا عند الله منزلة من كثير من المتنطعين الذين لم ينقطعوا عن العمل الدنيوي اشتغالا بالعلم وشؤون الآخرة، بل إن منهم من انقطع عن العمل تكاسلا وليكون عالة على غيره، فطريق السير إلى الله ليست لها معالم في الملابس والمطاعم، وإنما في اتباع الكتاب والسنة وسلامة القلب من الأمراض الباطنية، وفي الإمكان أن يتوجه جميع الخلق إلى ربهم لو أرادوا مع بقاء أسباب الحياة قائمة كما فرضتها سنة الله في خلقه، فللتاجر أن يواصل عمله في التجارة، وللزارع أن يزرع، ولكل ذي عمل دنيوي أن يقوم به وهو مع ذلك قادر على أن يسير في طريق أهل العلم والذكر"،[12] وماذا يضره أن يقول: "الجسد في الحانوت والقلب في الملكوت".[13] "وأن الصوفي ابن وقته "؛[14] أي يتماشى مع وقته وعصره ويساير التطورات والأحداث التي تطرأ فيه.
فكانت طريقة الشاذلي هذه، ثورة على ما تواضع عليه الناس بحيث أصبح اسم الصوفي مرادفا لاسم البطال الذي لا يحترف ولا يعمل، ويطلب من الناس أن يرزقوه، وقد فتح الشاذلي الباب على مصراعيه، وضرب من نفسه ومن أصحابه مثلا، فأدرك المسلمون أن الطريق الموصل إلى الله ليس حبسا على أصحاب المرقعات ولا وقفا على المنقطعين عن العمل، بل إنه سهل ميسور لكل أحد، والتصوف كما يقول الشاذلي ليس بـ "الرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة ولبس المرقعات، وإنما هو الصبر على الأوامر واليقين والهداية".[15]
فجوهر التصوف ليس في الرسوم والأشكال، وإنما هو في النوايا والأعمال، وخير العمل ما عمّ نفعه وعمل على وحدة المسلمين.
لقد سلك الشاذلي بهذا مسلكا فريدا في التصوف لم يسلكه من سبقه في هذا الميدان، حيث دعى جهارا إلى التنعم بالملابس والمراكب وغير ذلك، وكان الشاذلي نفسه وهو الشيخ الصوفي المربي، يلبس الفاخر من الثياب ويركب الفاره من الدواب، ويتخذ الخيل الجياد، وكان لا يعجبه الزي الذي اصطلح عليه الفقراء، ولا يتخذ المرقعات التي كان يتخذها هؤلاء الصوفية المدّعون، وقد دخل عليه يوما رجل فقير، عليه ملابس شعر (دليل على زهده وتقشفه) فقال له ذلك الرجل بعد أن أمسك بملابس الشاذلي الجميلة: يا سيدي! ما عُبد الله بهذا اللباس الذي عليك، فأمسك الشاذلي بملابس الصوفي الفقير فوجدها خشنة فقال: ولا عُبد الله بهذا اللباس الذي عليكم، لباسي يقول للناس أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول إني فقير إليكم فاعطوني".[16]
وفي هذا الجواب ما يدل على عمق فهم الشاذلي للتصوف الذي يدعو له، ومدى رغبته في نشر قيمه بين سائر الأوساط الإسلامية، وما ذلك إلا لأن طريق السير إلى الله ليست لها معالم في الملابس والمطاعم كما سبق الذكر، وإنما معالمها في اتباع الكتاب والسنة وسلامة القلب من الأمراض الباطنية.
وقد نهى تلميذ الشاذلي أبو العباس المرسي، ابن عطاء الله السكندري الذي شاوره في ترك أسباب العيش والزهد فيها ليلتحق بالطريقة الشاذلية، فأوضح له أن التصوف الحق لا يتعارض مع ترك الأسباب، بل هو يدخل في كل الأسباب، وقال: " نحن إذا أتانا مريد يدله شيء من الدنيا، لا نقول له اخرج عن دنياك وتعال، ولكن ندعه حتى تترشح فيه أنوار المنة، فيكون هو الخارج عن الدنيا بنفسه، ومثل ذلك قوم ركبوا سفينة فقال لهم رئيسها: غدا تهب ريح شديدة، ولا ينجيكم منها إلا أن ترموا بعض أمتعتكم فارموا بها الآن، فلا يسمع أحد قوله، فإذا هبت العواصف كان الكيس من يرمي متاعه بنفسه، كذلك إذا هبت عواصف اليقين يكون المريد هو الخارج عن الدنيا بنفسه".[17]
بل إن الشيخ الشاذلي نفسه كان يكره المريد المتعطل، ويكره أن يسأل تابِعُه الناس، ويحث على طرق الأسباب والعمل.
فالمبدأ الذي عمل الصوفية على توضيحه يتلخص في كون التصوف والحياة لا تعارض بينهما، ولطالما أعطوا المثل الحي لذلك من حياتهم الخاصة، إذ كم من صوفي كُنّيَ بحرفته وصنعته كالخرّاز والدقاق والدباغ والقواريري...، وكم من صوفي كان أثرى أهل عصره، ولم تشغل هؤلاء أموالهم وتجارتهم عن الله، ولم تمنعهم أن يكونوا أزهد الناس، بل كانت طريقهم ومحرابهم في السير إلى الله عز وجل.
الهوامش:
[1]- فيض القدير، عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: أحمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ-2006م، 5/463.
[2]- سورة المائدة، الآية: 87.
[3]- صيد الخاطر، أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط: 1429ھ-2008م، ص: 20.
[4]- سورة البقرة، الآية: 168.
[5]- سورة البقرة، الآية: 264.
[6]- سورة المائدة، الآية: 87.
[7]- سورة الأعراف، الآية: 32.
[8]- سورة الأعراف، الآية: 32.
[9]- الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، تحقيق: عبد الله دراز، ومحمد عبد الله دراز، وعبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2009م، 1/73.
[10] - الفتح الرباني، عبد القادر الجيلاني، تحقيق: أبو سهل نجاح عوض صيام، المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ط، ص: 24.
[11] - اللمع، الطوسي، تحقيق: عبد الحليم محمود، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط: 1423ھ-2002م، ص: 249.
[12]- الزاوية، التهامي الوزاني، مراجعة وتقديم: عبد العزيز السعود، منشورات جمعية تطاون أسمير، ط: 2008م، ص: 113.
[13]- المصدر السابق، ص: 112-113.
[14]- إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ط: 2008م، ص: 80.
[15]- إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18/19م: أحمد ابن عجيبة ومحمد الحراق، عبد المجيد الصغير، دار الآفاق الجديدة، المغرب، ط2، 1415ھ-1994م، ص: 32.
[16]- أبو الحسن الشاذلي: الصوفي المجاهد والعارف بالله، عبد الحليم محمود، ص: 47-48.
[17]- المصدر السابق، 145.