العلم اللدني هو كل علم موهوب من الله سبحانه على سبيل الخصوصية، فإن اقترنت كلمة "لدن" مع الوهب الإلهي فهي دلالة العطاء على سبيل الخصوصية، ومنه قوله تعالى: (هب لنا من لدنك رحمة)،[1] أي خصنا برحمة منك، وقوله: (يؤت من لدنه أجراً عظيماً)،[2] دليل على الخصوصية في الأجر والمكافأة..
والعلم اللدني علم ثابت ولا يصح إنكاره، لقوله تعالى: (وعلمناه من لدنا علماً)،[3] وفي قصة الخضر عليه السلام قوله لنبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا السلام: (إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه)،[4].. فكيف نحتقر عالما آتاه الله علما منه، فإن الله عز وجل لم يحقره إذ آتاه إياه.
ورد في الحديث: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)،[5] فهذا دليل على خصوصية التعليم الإلهي لآحاد وخواص من الخلق لقوله: (علمته أحداً من خلقك).. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)،[6] وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرفوع: (إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً)،[7] وقد دعا لعبد الله بن عباس عليهما السلام فقال: (اللهم علمه التأويل).[8]
والتأويل هو فهم باطن الكتاب كما أنّ التفسير هو فهم ظاهره.. ومنه كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)،[9] والحق سبحانه يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء).[10]
وقد ورد عن عدد من صحابة رسول الله الحديث عن نوعية خاصة من العلوم ليست للعوام، ومن ذلك قول الإمام عليّ عليه السلام: (اندمجتُ على مكنونِ علمٍ، لو بُحْتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية[11] في الطّوِيّ[12] البعيدة)،[13] وقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لو فسرت لكم قوله تعالى: "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن" لرجمتموني)،[14] وقول أبي هريرة رضي الله عنه: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين؛ فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم).[15]
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: "... يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة، وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به".[16]
فهذه كلها أدلّة على وجود علم خفي خاص يكاشف به الله من شاء من عباده، وقد اصطلح على تسميته بالعلم اللدنيّ أي العلم الخفيّ الباطن الذي اختصّ الله به الخواصّ من خلقه، وقد يسميه البعض العلم الباطني والعلم الوهبي..
أمّا الحقائق فإنها تعتبر علماً لدنياً إن كانت وهباً من الله على سبيل الاختصاص ولا تكون علماً لدنياً إن كانت غير ذلك، يقول تعالى: (وعلمناه من لدنّا علماً)، فشرط هذا العلم أن يكون المعلّم هو الله تعالى، والحق سبحانه يعلّم عباده عن طريق أمور كثيرة منها الرؤيا والإلهام والكشف والإلقاء والمنازلة والفهم.. فأكثر العلم اللدني لا يأتي إلا من الفهم في كتاب الله.. فكلّ من ألمّ بعلم الحقائق عن طريق الدراسة أو القراءة أو التفكير والاستنباط فليس من العلم اللدني في شيء.. وأماّ ما يكاشف به أو يطالع به أو يلقى إليه من ربه فهو من لدن الله ربّ العالمين..
وهذه العلوم والحقائق لا تتعارض مع قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)،[17] فإن الدين هو الدستور الإلهي والقانون السماوي الذي يدان به العباد يوم الدينونة الكبرى، وقد اكتمل هذا الدين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً وشريعة، وبقي الفهم في الكتاب فإن بابه مفتوح لا يغلق إلى قيام الساعة، والعلم ممتد لأن علم الله لا نهاية له، ووحي الله لعباده المسمى بالإلهام لا ينقطع، (وأوحينا إليهم فعل الخيرات)،[18] أمّا الدين فهو التوحيد والتكليف والتشريع كالحلال والحرام والحقوق وغيرها.. وليس كل علم هو تكليفي تشريعي، فإن من العلوم ما هو تحقيقي ومنها ما هو غير ذلك.. ولا يتعارض العلم مع الدين بل هو من الدين.. والحق سبحانه يقول: (واتقوا الله ويعلّمكم الله)،[19]
هناك ملحوظة هامة جداً، فإن أي علم يخالف شريعة الله فهو باطل.. حتى لو كان ذلك العلم مروياً عن أي أحد من الأكابر أو الأولياء أو المكاشفين أو الخواص أو غيرهم فالدّين والشرع يعلوان على كلّ شيء ولا يعلوهما شيء.. وما ورد في قصة الخضر ونبي الله موسى عليهما السلام ليس بحجة على علوية اللدنيات على الشريعة وإلا لما اعترض رسول الله موسى عليه السلام على الخضر، ولولا أن الله سبحانه قد أمره بذلك قبل الذهاب إلى الخضر لأقام سيدنا موسى عليه الحدّ الشرعي..
الهوامش
[1] سورة آل عمران، آية 8.
[2] سورة النساء، آية 40.
[3] سورة الكهف، آية 65.
[4] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله، رقم 122.
[5] مسند الإمام أحمد، رقم 3712.
[6]- إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، مرتضى الزبيدي، كتاب العلم، الباب السادس، 1/663.
[7] تفسير الطبري، 1/22.
[8] المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، كتاب معرفة الصحابة، رقم 6287.
[9] تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، 44/94.
[10]- سورة الشورى، آية 51.
[11] جمع رشاء وهو الحبل. لسان العرب، مادة رشا.
[12] جمع طوية وهي البئر، والبعيدة بمعنى العميقة. المصدر السابق، مادة طوي.
[13] نهج البلاغة، علي بن أبي طالب، شرح: محمد عبده، 1/41.
[14] تفسير ابن كثير، 8/156.
[15] صحيح البخاري، كتاب العلم، باب حفظ العلم، رقم 120.
[16] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، 1/263.
[17] سورة المائدة، آية 3.
[18] سورة الأنبياء، آية 73.
[19] سورة البقرة، آية 282.