(( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ)) [الأعراف 54]
قوله تعالى: «ثم استوى على العرش - إلى قوله - بأمره» - الاستواء - الاعتدال على الشيء و الاستقرار عليه، و ربما استعمل بمعنى التساوي، يقال: استوى زيد و عمرو أي تساويا قال تعالى: «لا يستوون عند الله».
و - العرش - ما يجلس عليه الملك و ربما كني به عن مقام السلطنة، قال الراغب في المفردات،: العرش في الأصل شيء مسقف، و جمعه عروش قال: «و هي خاوية على عروشها» و منه قيل: عرشت الكرم و عرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف.
قال: و العرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم، و عرشت البئر جعلت له عريشا، و سمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه.
قال: و عرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم، و ليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى عن ذلك - لا محمولا و الله تعالى يقول: «إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و لئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده»، و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسي فلك الكواكب، و استدل بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما السماوات السبع و الأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة و الكرسي عند العرش كذلك انتهى.
و قد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس و حكامهم و مصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم و يتميزون به عن غيرهم كالبساط و المتكإ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر و التخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا و هو أعظم و أرفع و أخص بالملك، و الكرسي يعمه و غيره، و استدعى التداول و التلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع و ينتهي، و فيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها و إدارة شئونها.
و اعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم و تميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية و اختلطوا و امتزجوا بالأعمال و نتائجها ثم اقتسموا في التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية.
كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة و الاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة و الأعمال و الإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد و سيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد و الملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد و توضع في يد من يحفظه و يديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع و إلا فسرعان ما تتلاشى و تتشتت.
و لذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر و المصالح الجزئية المحلية، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك، و على هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش و يهدى لصاحب العرش.
و من عجيب أمر هذا الزمام و انبساطه و سعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها و اختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه و يعرف فيه، و يتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها و يأخذها ملاكا لعمله.
يقول مصدر الأمر «ليجر الأمر» فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا و مصالح السياسية تكليفا سياسيا، و مصالح الجيش تكليفا دفاعيا و على هذا القياس كلما صعد أو نزل.
فجميع تفاصيل الأعمال و الإرادات و الأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة و هي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد و تجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض و تندمج و تتداخل و تتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش، و إذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر و يتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع و إراداتهم.
هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا، و هو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين، و الباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل و أسباب جزئية، و تنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء و هو محيط بكل شيء، و ليس كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى و اعتبارية ملك غيره.
ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب، و أزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها و أنواعها، و ترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء، و فيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء، و عنده مفاتح الغيب.
فقوله تعالى: «ثم استوى على العرش» كناية عن استيلائه على ملكه و قيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق و جل، و يترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته، و تقضي لكل ذي حاجة حاجته، و لذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله: «يدبر الأمر» إذ قال: «ثم استوى على العرش يدبر الأمر»: يونس:3.
ثم فصل بقوله: «يغشي الليل النهار» و يستره به «يطلبه» أي يطلب الليل النهار ليغشيه و يستره «حثيثا» أي طلبا حثيثا سريعا، و فيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل، و النهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه و يهجم عليه.
و قوله: «و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره» أي خلقهن و الحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء و لما يشاء و قرىء الجميع بالرفع، و على ذلك فالشمس مبتدأ و القمر و النجوم معطوفة عليها، و مسخرات خبره، و الباء في قوله: «بأمره» للسببية.
و مجموع قوله: «يغشي الليل النهار» إلخ، يجري مجرى التفسير لقوله: «ثم استوى على العرش» على ما يعطيه السياق، و هو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يئول إليه بحسب المعنى.