"الرد على ابن تيمية في قوله أن نوع العالم أزلي" 2
قول ابن تيمية بحوادث لا اوّل لها لم تزل مع الله
أي لم يتقدم الله جنس الحوادث، وإنما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فردٍ من أفرادِ الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.
وهذه المسألة من أبشع المسائل الاعتقادية التي خرج بها عن صحيح العقل وصريح النقل وإجماع المسلمين، ذكر هذه العقيدة في سبعة من كتبه:
1) ـــ "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"،
2) ـــ و"منهاج السنّة النبوية"،
3) ـــ و"كتاب شرح حديث النزول"،
4) ـــ و"كتاب شرح حديث عمران بن حصين"،
5) ـــ و"كتاب نقد مراتب الإجماع"،
6) ـــ و"مجموعة تفسير من ست سور"،
7) ـــ و"كتابه الفتاوى"، وكل هذه الكتب مطبوعة.
فقول ابن تيمية بأزلية نوع العالم مخالف للقرآن والحديث الصريح وإجماع الأمة وقضية العقل، أمّا القرآن فقوله تعالى: (هؤ الأوَّلُ والأخِرُ) (سورة الحديد/3)، فليس معنى هو الأول إلا أنه هو الأزلي الذي لا أزلي سواه أي أن الأولية المطلقة لله فقط لا تكون لغيره، فأشرك ابن تيمية مع الله غيره في الأولية التي أخبرنا الله بأنها خاصة له، وذلك لأن الأولية النسبية هي في المخلوق ، فالماء له أولية نسبية أي أنه أول المخلوقات بالنسبة لغيره من المخلوقات ، ثم تلاه العرش ثم حدث ما بعدهما وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ ثم الأرض ثم السموات، ثم ما ذكره الله تعالى بقوله: ( والأَرضَ بَعدَ ذَلِكَ دحاها) (سورة النازعات/30).
وأما الحديث فقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه البخاري (1) في كتاب بدء الخلق وغيرُه: "كان الله ولم يكن شىء غيره" الذي توافقه الرواية الأخرى رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كُلِّ شىء) (2) , ورواية: (كان الله ولم يكن معه شىء).
وأمّا رواية البخاري في أواخر الجامع (3): "كان الله ولم يكن شىء قبله" فترد إلى روايته في كتاب بدء الخلق وذلك متعين ، ولا يجوز ترجيح رواية: (كان الله ولم يكن شىء قبله" على رواية: "كان الله ولم يكن شىء غيره " كما أومأ إلى ذلك ابن تيمية، لأن ظاهر رواية: "كان الله ولم يكن شىء قبله" يوافق ما يزعمه كما أشار لذلك الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (4) عند ذكر حديث: "كان الله ولم يكن شىء قبله " فقال فيما حاول ابن تيمية من ترجيح هذه الرواية على تلك الرواية توصلاً إلى عقيدته من إثبات حوادث لا أول لها ما نصه: "وهذه من أشنع المسائل المنسوبة له "- يعني ابن تيمية-. اهـ.
أقول: ولا أدري لماذا لم يجزم الحافظ ابن حجر بقول ابن تيمية بهذه المسألة مع أنه ذكر في كتابه لسان الميزان قول الحافظ السبكي في ابن تيمية في تلك الأبيات التي منها: يرى حوادث لا مبدا لأولها في الله، وأنه يقول بتجدد حوادث في ذات الله من كلمات وإرادات بحسب المخلوقات. وهو المراد بقول ابن تيمية نوع العالم أزلي وأفراده حادثة.
وكذلك رواية مسلم (5): "اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء" ترد إلى رواية البخاري: "كان الله ولم يكن شىء غيره " فإن لم ترد ورجحت رواية مسلم كان ذلك رجوعًا إلى قول الفلاسفة وإلغاء لرواية البخاري.
فخالف ابن تيمية القرءان والحديث وقضية العقل التي لم يخالف فيها إلا الدهرية وأمثالهم، وهذا ليس مشكوكًا في نسبته إلى ابن تيمية فإنه ذكر ذلك في سبعة من كتبه كما مرّ، وعبّر في بعضها بأزلية جنس العالم. ولو لم يكن نصّ ابن تيمية في كتبه السبعة التي هي في متناول من يريد الاطلاع عليها لأنها طبعت، لكفى شهادة الحافظين الإمامين الجليلين المتفق على إمامتهما تقي الدين السبكي وأبي سعيد العلائي ، وقد تقدمت ترجمة السبكي في كتاب أعيان العصر لتلميذه الصفدي بتوسع ووصفُهُ له بالثناء البالغ ليُِنرَل بمنزلته لما صح من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أنزلوا الناس منازلهم " رواه أبو داود (6) من حديث عائشة.
وابن تيمية قد أخذ هذه المسألة أعني قوله بقدم نوع العالم عن متأخري الفلاسفة لأنه اشتغل بالفلسفة كما قال الذهبي وإن كان معروفا بتشديد النكير على أرسطو وغيره لقولهم العالم أزلي بجنسه وتركيبه وصورته على أن قسمًا من الفلاسفة لم يقولوا بهذه المقالة قال ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (7): ((بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم - يعني أنه لا يعتبر- لأنه عن نظر عقلي يزاحمه الوهم فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلاً عن المحققين المجتهدين، على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوث العالم منهم أي الفلاسفة فلا إجماع لهم على ذلك، ومما يدل على ذلك ما حكاه لنا المصنف رحمه الله عند قراءة هذا المحل عليه من كتابة وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه إنباء الرواة على أنباء النحاة ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المعري عمن ذكر أنه قرىء بحضرته يومًا: أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطا إلا على جبل فامتثلوا، وتعسّر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه، فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم، فأعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسًّا فقال: اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسَّه وُضِعَ على حجر أم لا؟ ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابًا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول، فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونًا من الأصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك، وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف قلم اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين، لما أن كان العالم محدَثًا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدِث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين وأشياعهما حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثةءالاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان، فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند بارئه بخير فعل، والسلام". ا هـ.
ونقل ذلك أيضًا الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في كتابه ذخائر القصر قال ما نصّه: "ووجد مكتوب على عتبة على أساس الجامع الأموي بدمشق بالقلم اليوناني وفسر: باسم الحي الأزلي لما كان العالم محدَثًا وجب أن يكون له محدِث ليس هو كهو فأدت الضرورة إلى تعظيمه والخضوع لقربه لا كما قال ذو اللحيين وذو السنين وأشياعهما انتدب لعمارة هذا الهيكل المبارك والإنفاق عليه من ماله محب الخير فإن أمكن الداخل فيه ذكر بانيه عند بارئه بشىء من خير شُكِرَ فعله والسلام وذلك لألفي سنة مضت لأصحاب الأسطوان". اهـ.
تنبيه: ليعلم أن هذا الرجل – اي ابن تيمية- يكثر من سب لفلاسفة وهو موافق لمتأخريهم تمويهًا على الناس ليُظن انه يتكلم بلسان أهل الحديث، وهو خالف علماء الحديث والفقهاء قاطبة بمقالته هذه ان جنس العالم أزلي لم يزل مع الله وإنما الحادث هو الأفراد المعينة من المخلوقات. كذّب كلام الله بذلك وجعل يحدث منه كلامًا بعد كلام من غير ابتداء ومن غير انتهاء، وكيف يعقل أن يكون النوع موجودا في غير ضمن الأفراد، وقوله النوع أزلي والأفراد حادثة ينعكس إلى عكس ما يدعيه، وبيان ذلك أن الإنسانية لا تتحقق خارج أفراد الإنسان وإنما تتحقق ضمن الأفراد. وهذا الذي أصابه منشؤه أنه خاض في الفلسفة فعلق بذهنه معتقد أحد فريقيهم وقد ذكر الذهبي انه اشتغل بالفلسفة والكلام أي الكلام المذموم كلام أهل الاهواء وهم الفرق البدعية في الاعتقاد.
فكيف ينسب نفسه إلى السلف وتنسبه أتباعه إلى السلف وهو ناقض السلف، فالسلف كلهم كانوا مجمعين على أن الله هو الأول الأولية المطلقة وأنه لا يشاركه بها غيره، وهو أشرك بالله نوع العالم أي جنسه، فأين هو وأين التوحيد؟.
فائدة
مما يبطل قول ابن تيمية بقيام كلام حادث الأفراد أزلي النوع وإرادة حادثة الأفراد قديمة النوع في ذات الله، ما قاله أبو الفضل التميمي في كتابه اعتقاد الإمام أحمد (
: ((وذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أن الله عز وجل يغضب ويرضى وأن له غضبًا ورضا، وقرأ أحمد قوله عز وجـل: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (سورة طه/81)، وأضاف الغضب إلى نفسه وقال عز وجل : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (سورة الزخرف/55) الآية، قال ابن عباس: يعني أغضبونا. وقوله أيضًا: ( فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه)ُ (سورة النساء/93) الآية، ومثل ذلك في القرءان كثير، والغضب والرضا صفتان له من صفات نفسه لم يزل الله تعالى غاضبًا على ما سبق في علمه أنه يكون مما يغضبه ولم يزل راضيًا على ما سبق في العلم أنه يكون مما يرضيه، وأنكر أصحابه على من يقول إن الرضا والغضب مخلوقان، قالوا فمن قال ذلك لزمه أن غضب الله عز وجل على الكافرين يفنى وكذلك رضاه على الأنبياء والمؤمنين حتى لا يكون راضيًا على أوليائه ولا ساخطا على أعدائه، ويسمَّى ما كان عن الصفة باسم الصفة مجازًا في بعض الأشياء، و يسمَّى عذابُ الله تعالى وعقابه غضبًا وسخطًا لأنهما عن الغضب كانا، وقد أجمع المسلمون لا يتناكرون أنهم إذا رأوا الزلازل والأمطار العظيمة أنهم يقولون هذه قدرة الله تعالى، والمعنى أنها عن قدرةِ كانت، وقد يقول الإنسان في دعائه: اللهم اغفر لنا عِلْمَكَ فينا وإنما يريد معلومك الذي علمته، فسموا المعلوم باسم العلم، وكذلك سموا المرتضى باسم الرضى وسموا المغضوب باسم الغضب)) أ. هـ .
فما أعظم هذه الفائدة ففيها ردّ لما يحتج به أتباع ابن تيمية لحدوث صفات الله تعالى بحديث الشفاعة المشهور أن آدم وغيره يقول: "إن الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله"، فزعم هؤلاء المشبّهة أن الله يحدث له في ذلك الوقت صفة حادثة في ذاته. وهذه الفائدة تبين فساد فهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى مذهب أحمد وهم على خلافه في الحقيقة.
ويكفي ابن تيمية مناقضة أنه يذكر في غير موضع أننا لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ويقول في الموافقة: "وأين في القرءان امتناع حوادث لا أول لها" اهـ.
نقول: فأين في الكتاب والسنة ذكر جواز حوادث لا أول لها، وهذه عقيدة فاسدة مصادمة لعقيدة الإسلام يبرأ منها المسلمون.
قال الحافظ اللغوي محمَّد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه (9): ((وافتقر محدثه إلى محدث ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية وما تسلسل لا إلى نهاية لم يتحصل ، أي إن تسلسل هكذا لزم عدم حصول حادث منها أصلاً لما سبق أن المحال وهو وجود حوادث لا أول لها يستلزم استحالة وجود الحادث الحاضر، وأيضا فإن التسلسل يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له وذلك لا يُعقل، وإن كان الأمر ينتهي إلى عدد متناه فيلزم الدور وهو محال أيضًا لأنه يلزم عليه تقدم الشىء على نفسه وتأخره عنها، فإذا كان الحدوث يؤدي إلى الدور أو التسلسل المحالين لزم أن يكون محالا)) اهـ.
وقال ملا علي القاري في شرح الفقه اكبر ما نصه (10): (( ثم اعلم أن المراد بأهل القبلة الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الدين، كحدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الله بالكليات والجزئيات وما أشبه ذلك من المسائل، فمن واظب طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم، أو نفي الشر، أو نفي علمه سبحانه بالجزئيات لا يكون من أهل القبلة)) اهـ.
فائدة:
فإذا تقرر هذا فتفهموا يرحمكم الله بتوفيقه ما يأتي من البرهان العقلي على حدوث العالم وهو ما سوى الله، وتقريره أن يقال: إن الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر، فما لا يخلو من الحادث حادث، فالأجسام حادثة، وفي هذا البرهان ثلاث قضايا:
الأولى:
أن الأجسام لا تخلو من الحركة أو السكون وهي ظاهرة- مُدركة بالبديهة فلا تحتاج إلى تأمل، فإن من عَقِلَ جسما لا ساكنًا ولا متحركًا كان عن نهج العقل ناكبًا وللواقع مكابراً.
الثانية:
قولنا: "إنهما حادثان" يدل على ذلك تعاقبهما وذلك مشاهد في جميع الأجسام وما لم يشاهَد، فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته، وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه، فالطارىء منهما حادث بطريانه، والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قِدَمَهُ لاستحال عدمه.
الثالثة:
قولنا: "ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث" لأنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها، وما لا أول له من الحوادث لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال، وانقضاء ما لا نهاية له محال لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر ئم انتقلت إلى ما قبله وهلمَّ جرًّا على الترتيب لم تفض إلى نهاية، ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محال، وإن لم يمكن عدم إفضائك إلى نهاية لكان لتلك الحوادث أوّل وهو خلاف المفروض.
وعندنا دليل عقلي بعبارة أخرى فنقول: لو كان أفراد العالم التي دخلت في الوجود لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن يكون زوجًا وفردًا معًا ، أو لا زوجًا ولا فردًا، ومحال أن يكون زوجًا وفردًا جميعًا ولا زوجًا ولا فردًا فإن في ذلك جمعًا بين النفي والإثبات وهما ضدان، إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر، وفي نفي أحدهما إثبات الآخر، ومحال أن يكون زوجًا فقط لأن الزوج يكون فردًا بزيادة واحد فكيف يُعْوِزُ ما لا نهاية له واحد ، ومحال أن يكون فردًا فقط لأن الفرد يكون زوجًا بزيادة واحد عليه فكيف يُعْوِز واحد ما لا نهاية له، فحصل من هذا أن العالم لا يخلو من الحوادث فهو إذا حادث، والا لزم استحالة وجود الحادث الحاضر لأنه لازم وجود حوادث لا أول لها، لكن الحادث الحاضر ثابت فانتفى ملزومه وهو وجود حوادث لا أول لها، فلاِنتفاء وجود حوادث لا أول لها انتفى ملزومه وهو كون مالا يخلو من الحوادث قديمًا، فثبت نقيضُه وهو: "ما لا يخلو من الحوادث حادث"، فتبيّن وجوب انتهاء الحوادث التي دخلت في الوجود إلى أول.
وبهذا الدليل يبطل قول بعض الملحدين بتسلسل الوالدية والولدية في جانب الماضي إلى غير نهاية، ويقال في البذر والزرع ونحو ذلك مثل ذلك، ويقال في إبطال قولهم: "ما من نطفة إلا من إنسان ولا من إنسان إلا من نطفة وهكذا إلى غير بداية"، وقولهم: "ما من زرع إلا من بذر ولا من بذر إلا من زرع وهكذا إلى غير بداية في جانب الماضي " يلزم منه ذلك المحال وما أدى إلى المحال محال.
---------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده).
(2) فتح الباري (13/ 410).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب وكان عرشه على الماء.
(4) فتح الباري (13/ 410).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة: باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(6) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في تنزيل الناس منازلهم.
(7) أنظر الكتاب (3/ 84).
(
اعتقاد الامام أحمد (ص/ 6- 7)، مخطوط.
(9) إتحاف السادة المتقين (2/ 96).
(10) شرح الفقه الأكبر (ص/ 154- 155).
قول ابن تيمية بحوادث لا اوّل لها لم تزل مع الله
أي لم يتقدم الله جنس الحوادث، وإنما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فردٍ من أفرادِ الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.
وهذه المسألة من أبشع المسائل الاعتقادية التي خرج بها عن صحيح العقل وصريح النقل وإجماع المسلمين، ذكر هذه العقيدة في سبعة من كتبه:
1) ـــ "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"،
2) ـــ و"منهاج السنّة النبوية"،
3) ـــ و"كتاب شرح حديث النزول"،
4) ـــ و"كتاب شرح حديث عمران بن حصين"،
5) ـــ و"كتاب نقد مراتب الإجماع"،
6) ـــ و"مجموعة تفسير من ست سور"،
7) ـــ و"كتابه الفتاوى"، وكل هذه الكتب مطبوعة.
فقول ابن تيمية بأزلية نوع العالم مخالف للقرآن والحديث الصريح وإجماع الأمة وقضية العقل، أمّا القرآن فقوله تعالى: (هؤ الأوَّلُ والأخِرُ) (سورة الحديد/3)، فليس معنى هو الأول إلا أنه هو الأزلي الذي لا أزلي سواه أي أن الأولية المطلقة لله فقط لا تكون لغيره، فأشرك ابن تيمية مع الله غيره في الأولية التي أخبرنا الله بأنها خاصة له، وذلك لأن الأولية النسبية هي في المخلوق ، فالماء له أولية نسبية أي أنه أول المخلوقات بالنسبة لغيره من المخلوقات ، ثم تلاه العرش ثم حدث ما بعدهما وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ ثم الأرض ثم السموات، ثم ما ذكره الله تعالى بقوله: ( والأَرضَ بَعدَ ذَلِكَ دحاها) (سورة النازعات/30).
وأما الحديث فقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه البخاري (1) في كتاب بدء الخلق وغيرُه: "كان الله ولم يكن شىء غيره" الذي توافقه الرواية الأخرى رواية أبي معاوية: (كان الله قبل كُلِّ شىء) (2) , ورواية: (كان الله ولم يكن معه شىء).
وأمّا رواية البخاري في أواخر الجامع (3): "كان الله ولم يكن شىء قبله" فترد إلى روايته في كتاب بدء الخلق وذلك متعين ، ولا يجوز ترجيح رواية: (كان الله ولم يكن شىء قبله" على رواية: "كان الله ولم يكن شىء غيره " كما أومأ إلى ذلك ابن تيمية، لأن ظاهر رواية: "كان الله ولم يكن شىء قبله" يوافق ما يزعمه كما أشار لذلك الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (4) عند ذكر حديث: "كان الله ولم يكن شىء قبله " فقال فيما حاول ابن تيمية من ترجيح هذه الرواية على تلك الرواية توصلاً إلى عقيدته من إثبات حوادث لا أول لها ما نصه: "وهذه من أشنع المسائل المنسوبة له "- يعني ابن تيمية-. اهـ.
أقول: ولا أدري لماذا لم يجزم الحافظ ابن حجر بقول ابن تيمية بهذه المسألة مع أنه ذكر في كتابه لسان الميزان قول الحافظ السبكي في ابن تيمية في تلك الأبيات التي منها: يرى حوادث لا مبدا لأولها في الله، وأنه يقول بتجدد حوادث في ذات الله من كلمات وإرادات بحسب المخلوقات. وهو المراد بقول ابن تيمية نوع العالم أزلي وأفراده حادثة.
وكذلك رواية مسلم (5): "اللهم أنت الأول فليس قبلك شىء" ترد إلى رواية البخاري: "كان الله ولم يكن شىء غيره " فإن لم ترد ورجحت رواية مسلم كان ذلك رجوعًا إلى قول الفلاسفة وإلغاء لرواية البخاري.
فخالف ابن تيمية القرءان والحديث وقضية العقل التي لم يخالف فيها إلا الدهرية وأمثالهم، وهذا ليس مشكوكًا في نسبته إلى ابن تيمية فإنه ذكر ذلك في سبعة من كتبه كما مرّ، وعبّر في بعضها بأزلية جنس العالم. ولو لم يكن نصّ ابن تيمية في كتبه السبعة التي هي في متناول من يريد الاطلاع عليها لأنها طبعت، لكفى شهادة الحافظين الإمامين الجليلين المتفق على إمامتهما تقي الدين السبكي وأبي سعيد العلائي ، وقد تقدمت ترجمة السبكي في كتاب أعيان العصر لتلميذه الصفدي بتوسع ووصفُهُ له بالثناء البالغ ليُِنرَل بمنزلته لما صح من حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أنزلوا الناس منازلهم " رواه أبو داود (6) من حديث عائشة.
وابن تيمية قد أخذ هذه المسألة أعني قوله بقدم نوع العالم عن متأخري الفلاسفة لأنه اشتغل بالفلسفة كما قال الذهبي وإن كان معروفا بتشديد النكير على أرسطو وغيره لقولهم العالم أزلي بجنسه وتركيبه وصورته على أن قسمًا من الفلاسفة لم يقولوا بهذه المقالة قال ابن أمير الحاج في كتابه "التقرير والتحبير" (7): ((بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم - يعني أنه لا يعتبر- لأنه عن نظر عقلي يزاحمه الوهم فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلاً عن المحققين المجتهدين، على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوث العالم منهم أي الفلاسفة فلا إجماع لهم على ذلك، ومما يدل على ذلك ما حكاه لنا المصنف رحمه الله عند قراءة هذا المحل عليه من كتابة وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه إنباء الرواة على أنباء النحاة ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المعري عمن ذكر أنه قرىء بحضرته يومًا: أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطا إلا على جبل فامتثلوا، وتعسّر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالا لمرسومه، فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم، فأعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسًّا فقال: اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسَّه وُضِعَ على حجر أم لا؟ ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابًا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول، فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونًا من الأصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك، وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف قلم اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين، لما أن كان العالم محدَثًا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدِث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذو اللحيين وأشياعهما حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثةءالاف وسبعمائة عام لأهل الأسطوان، فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند بارئه بخير فعل، والسلام". ا هـ.
ونقل ذلك أيضًا الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في كتابه ذخائر القصر قال ما نصّه: "ووجد مكتوب على عتبة على أساس الجامع الأموي بدمشق بالقلم اليوناني وفسر: باسم الحي الأزلي لما كان العالم محدَثًا وجب أن يكون له محدِث ليس هو كهو فأدت الضرورة إلى تعظيمه والخضوع لقربه لا كما قال ذو اللحيين وذو السنين وأشياعهما انتدب لعمارة هذا الهيكل المبارك والإنفاق عليه من ماله محب الخير فإن أمكن الداخل فيه ذكر بانيه عند بارئه بشىء من خير شُكِرَ فعله والسلام وذلك لألفي سنة مضت لأصحاب الأسطوان". اهـ.
تنبيه: ليعلم أن هذا الرجل – اي ابن تيمية- يكثر من سب لفلاسفة وهو موافق لمتأخريهم تمويهًا على الناس ليُظن انه يتكلم بلسان أهل الحديث، وهو خالف علماء الحديث والفقهاء قاطبة بمقالته هذه ان جنس العالم أزلي لم يزل مع الله وإنما الحادث هو الأفراد المعينة من المخلوقات. كذّب كلام الله بذلك وجعل يحدث منه كلامًا بعد كلام من غير ابتداء ومن غير انتهاء، وكيف يعقل أن يكون النوع موجودا في غير ضمن الأفراد، وقوله النوع أزلي والأفراد حادثة ينعكس إلى عكس ما يدعيه، وبيان ذلك أن الإنسانية لا تتحقق خارج أفراد الإنسان وإنما تتحقق ضمن الأفراد. وهذا الذي أصابه منشؤه أنه خاض في الفلسفة فعلق بذهنه معتقد أحد فريقيهم وقد ذكر الذهبي انه اشتغل بالفلسفة والكلام أي الكلام المذموم كلام أهل الاهواء وهم الفرق البدعية في الاعتقاد.
فكيف ينسب نفسه إلى السلف وتنسبه أتباعه إلى السلف وهو ناقض السلف، فالسلف كلهم كانوا مجمعين على أن الله هو الأول الأولية المطلقة وأنه لا يشاركه بها غيره، وهو أشرك بالله نوع العالم أي جنسه، فأين هو وأين التوحيد؟.
فائدة
مما يبطل قول ابن تيمية بقيام كلام حادث الأفراد أزلي النوع وإرادة حادثة الأفراد قديمة النوع في ذات الله، ما قاله أبو الفضل التميمي في كتابه اعتقاد الإمام أحمد (
: ((وذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أن الله عز وجل يغضب ويرضى وأن له غضبًا ورضا، وقرأ أحمد قوله عز وجـل: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (سورة طه/81)، وأضاف الغضب إلى نفسه وقال عز وجل : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ) (سورة الزخرف/55) الآية، قال ابن عباس: يعني أغضبونا. وقوله أيضًا: ( فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه)ُ (سورة النساء/93) الآية، ومثل ذلك في القرءان كثير، والغضب والرضا صفتان له من صفات نفسه لم يزل الله تعالى غاضبًا على ما سبق في علمه أنه يكون مما يغضبه ولم يزل راضيًا على ما سبق في العلم أنه يكون مما يرضيه، وأنكر أصحابه على من يقول إن الرضا والغضب مخلوقان، قالوا فمن قال ذلك لزمه أن غضب الله عز وجل على الكافرين يفنى وكذلك رضاه على الأنبياء والمؤمنين حتى لا يكون راضيًا على أوليائه ولا ساخطا على أعدائه، ويسمَّى ما كان عن الصفة باسم الصفة مجازًا في بعض الأشياء، و يسمَّى عذابُ الله تعالى وعقابه غضبًا وسخطًا لأنهما عن الغضب كانا، وقد أجمع المسلمون لا يتناكرون أنهم إذا رأوا الزلازل والأمطار العظيمة أنهم يقولون هذه قدرة الله تعالى، والمعنى أنها عن قدرةِ كانت، وقد يقول الإنسان في دعائه: اللهم اغفر لنا عِلْمَكَ فينا وإنما يريد معلومك الذي علمته، فسموا المعلوم باسم العلم، وكذلك سموا المرتضى باسم الرضى وسموا المغضوب باسم الغضب)) أ. هـ .
فما أعظم هذه الفائدة ففيها ردّ لما يحتج به أتباع ابن تيمية لحدوث صفات الله تعالى بحديث الشفاعة المشهور أن آدم وغيره يقول: "إن الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله"، فزعم هؤلاء المشبّهة أن الله يحدث له في ذلك الوقت صفة حادثة في ذاته. وهذه الفائدة تبين فساد فهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى مذهب أحمد وهم على خلافه في الحقيقة.
ويكفي ابن تيمية مناقضة أنه يذكر في غير موضع أننا لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ويقول في الموافقة: "وأين في القرءان امتناع حوادث لا أول لها" اهـ.
نقول: فأين في الكتاب والسنة ذكر جواز حوادث لا أول لها، وهذه عقيدة فاسدة مصادمة لعقيدة الإسلام يبرأ منها المسلمون.
قال الحافظ اللغوي محمَّد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ممزوجًا بالمتن ما نصه (9): ((وافتقر محدثه إلى محدث ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية وما تسلسل لا إلى نهاية لم يتحصل ، أي إن تسلسل هكذا لزم عدم حصول حادث منها أصلاً لما سبق أن المحال وهو وجود حوادث لا أول لها يستلزم استحالة وجود الحادث الحاضر، وأيضا فإن التسلسل يؤدي إلى فراغ ما لا نهاية له وذلك لا يُعقل، وإن كان الأمر ينتهي إلى عدد متناه فيلزم الدور وهو محال أيضًا لأنه يلزم عليه تقدم الشىء على نفسه وتأخره عنها، فإذا كان الحدوث يؤدي إلى الدور أو التسلسل المحالين لزم أن يكون محالا)) اهـ.
وقال ملا علي القاري في شرح الفقه اكبر ما نصه (10): (( ثم اعلم أن المراد بأهل القبلة الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الدين، كحدوث العالم وحشر الأجساد وعلم الله بالكليات والجزئيات وما أشبه ذلك من المسائل، فمن واظب طول عمره على الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم، أو نفي الشر، أو نفي علمه سبحانه بالجزئيات لا يكون من أهل القبلة)) اهـ.
فائدة:
فإذا تقرر هذا فتفهموا يرحمكم الله بتوفيقه ما يأتي من البرهان العقلي على حدوث العالم وهو ما سوى الله، وتقريره أن يقال: إن الجسم لا يخلو من الحركة والسكون وهما حادثان لأنه بحدوث أحدهما ينعدم الآخر، فما لا يخلو من الحادث حادث، فالأجسام حادثة، وفي هذا البرهان ثلاث قضايا:
الأولى:
أن الأجسام لا تخلو من الحركة أو السكون وهي ظاهرة- مُدركة بالبديهة فلا تحتاج إلى تأمل، فإن من عَقِلَ جسما لا ساكنًا ولا متحركًا كان عن نهج العقل ناكبًا وللواقع مكابراً.
الثانية:
قولنا: "إنهما حادثان" يدل على ذلك تعاقبهما وذلك مشاهد في جميع الأجسام وما لم يشاهَد، فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته، وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه، فالطارىء منهما حادث بطريانه، والسابق حادث لعدمه لأنه لو ثبت قِدَمَهُ لاستحال عدمه.
الثالثة:
قولنا: "ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث" لأنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها، وما لا أول له من الحوادث لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال، وانقضاء ما لا نهاية له محال لأنك إذا لاحظت الحادث الحاضر ئم انتقلت إلى ما قبله وهلمَّ جرًّا على الترتيب لم تفض إلى نهاية، ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محال، وإن لم يمكن عدم إفضائك إلى نهاية لكان لتلك الحوادث أوّل وهو خلاف المفروض.
وعندنا دليل عقلي بعبارة أخرى فنقول: لو كان أفراد العالم التي دخلت في الوجود لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن يكون زوجًا وفردًا معًا ، أو لا زوجًا ولا فردًا، ومحال أن يكون زوجًا وفردًا جميعًا ولا زوجًا ولا فردًا فإن في ذلك جمعًا بين النفي والإثبات وهما ضدان، إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر، وفي نفي أحدهما إثبات الآخر، ومحال أن يكون زوجًا فقط لأن الزوج يكون فردًا بزيادة واحد فكيف يُعْوِزُ ما لا نهاية له واحد ، ومحال أن يكون فردًا فقط لأن الفرد يكون زوجًا بزيادة واحد عليه فكيف يُعْوِز واحد ما لا نهاية له، فحصل من هذا أن العالم لا يخلو من الحوادث فهو إذا حادث، والا لزم استحالة وجود الحادث الحاضر لأنه لازم وجود حوادث لا أول لها، لكن الحادث الحاضر ثابت فانتفى ملزومه وهو وجود حوادث لا أول لها، فلاِنتفاء وجود حوادث لا أول لها انتفى ملزومه وهو كون مالا يخلو من الحوادث قديمًا، فثبت نقيضُه وهو: "ما لا يخلو من الحوادث حادث"، فتبيّن وجوب انتهاء الحوادث التي دخلت في الوجود إلى أول.
وبهذا الدليل يبطل قول بعض الملحدين بتسلسل الوالدية والولدية في جانب الماضي إلى غير نهاية، ويقال في البذر والزرع ونحو ذلك مثل ذلك، ويقال في إبطال قولهم: "ما من نطفة إلا من إنسان ولا من إنسان إلا من نطفة وهكذا إلى غير بداية"، وقولهم: "ما من زرع إلا من بذر ولا من بذر إلا من زرع وهكذا إلى غير بداية في جانب الماضي " يلزم منه ذلك المحال وما أدى إلى المحال محال.
---------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده).
(2) فتح الباري (13/ 410).
(3) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب وكان عرشه على الماء.
(4) فتح الباري (13/ 410).
(5) أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الذكر والدعاء والتوبة: باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(6) أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في تنزيل الناس منازلهم.
(7) أنظر الكتاب (3/ 84).
(
اعتقاد الامام أحمد (ص/ 6- 7)، مخطوط.
(9) إتحاف السادة المتقين (2/ 96).
(10) شرح الفقه الأكبر (ص/ 154- 155).