كثيرون أولئك الذين لم ينصفوا التصوف، فحكموا عليه دون أن يطّلعوا على ملف قضيته، ففسّقوا شيوخه، واتهموهم بشتى أنواع الزيغ، والابتعاد عن الكتاب والسنة، من غير أن يكلِّف- هذا الصنف من الناس- أنفسهم الغطس في أعماق العلوم، ففي اعتبارهم أن الفهم السطحي للدين هو أسمى مستوياته، فلم يُتعبوا عقولهم لا في البحث عن الحقائق، ولا في ذوق الجوهر، فاتهموا بذلك كل من ليس على شاكلتهم، ولو كانت علومه كالبحر الهادئ...
إنه لمن المعلوم أن التصوف هو علم من أجلّ العلوم التي قامت عليها الشريعة الإسلامية، ونحن عندما نتحدث عن التصوف فإننا نعني به التصوف الصحيح الذي لا يخرج عن الكتاب والسنة، التصوف الذي بُنيت أسسه وقواعده على هذين الأصلين الجليلين، وذلك على وجه الإخلاص والصدق، مصداقا لقوله عزّ وجل: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾.[1] ولو رجعنا إلى رجال التصوف الأوائل الذين أسّسوه، لوجدنا أنهم كانوا كلهم علماء عاملين، دعاة إلى الله، ساروا إلى الله بالكتاب والسنة، فظهرت أنوارهم وبقيت آثارهم، وما لبثوا يبدون غيرتهم عن التصوف، جاهدين في تحصينه من المدّعين المنتسبين إليه زورا وبهتانا، فلطالما أظهر رجال التصوف المبادئ والأصول التي يعتمد عليها التصوف والمستمدة من كتاب الله تعالى، ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنّ كتب القوم لزاخرة بتلك الأوصاف والشروط والمبادئ التي تُميز بوضوح بين المنتسب الصادق والمنتسب المنتحل، هذا الأخير الذي لا يُعتد بما يبدر منه، بل يبرأ التصوف منه، ولا يعترف به البتة، فهو ليس من التصوف في شيء ولا يمت إلى التصوف وإلى أهله بأدنى صلة.
ولتوضيح معنى التصوف وحقيقته، ومدى تشبث رجاله بالكتاب والسنة، لابد من سرد أقوال بعض العلماء والصالحين في الموضوع، وهي كالآتي:
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني- رحمه الله تعالى- في كتابه: "اليواقيت والجواهر": -المبحث الثامن والأربعون في بيان أن جميع أئمة الصوفية على هدى من ربهم وأن طريقة الإمام أبي القاسم الجنيد- رضي الله عنه- أقوم طرق القوم كلها لتحريرها على الشريعة تحرير الجوهر- يقول: "اعلم رحمك الله أن حقيقة الصوفي فقيه عمل بعلمه لا غير، فأورثه الله تعالى بعلمه الإطلاع على دقائق الشريعة وأسرارها حتى صار أحدهم مجتهدا في الطريق والأسرار كما هو شأن الأئمة المجتهدين في الفروع الشرعية...، ثم إن مما اختص به الصوفية عن غيرهم علمهم بالطريق الموصلة لهم إلى العمل بالكتاب والسنة...، ثم قال: "وقد رأيت في كتاب "الرعاية" للشيخ عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء بمصر في عصره ما نصه: كل الناس قعدوا على رسوم الشريعة وقعد الصوفية على قواعدها التي لا تتزلزل...".[2]
أما حجة الإِسلام، الإِمام أبو حامد الغزالي، رحمه الله تعالى، فقد تحدث في كتابه: "المنقذ من الضلال" عن الصوفية وعن سلوكهم وطريقتهم، فقال: "علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى، خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم، وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُستضاء به".[3]
وتحدث الإمام أحمد بن تيمية، رحمه الله تعالى عن التصوف، في مجموعة فتاويه، فقال: "فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض،[4] وإبراهيم بن أدهم،[5] وأبي سليمان الدّاراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر [الجيلاني]، والشيخ حمّاد،[6] وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت، وهذا هو الحق الذي دلّ عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير في كلامهم".[7]
وقال الإمام الشاطبي في: "الاعتصام"، متحدثا عن الصوفية: "وإنما خصّصنا هذا الموضع بالذكر، وإن كان فيما تقدّم من النقل كفاية؛ لأن كثيرا من الجهّال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتّباع، وأن اختراع العبادات والتزام مالم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه، أو يقولوا به، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم: اتباع السنة، واجتناب ما خالفها.[8]
وقد وصف الإمام الشاطبي الصوفية بأوصاف حميدة، فقال: "الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة؛ مجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها، ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرقة من الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السنة. وأكثر من ذُكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون، وممن يُؤخذ عنه الدين أصولا لا فروعا، ومن لم يكن كذلك؛ فلا بد من أن يكون فقيها في دينه بمقدار كفايته".[9]
وأثنى عليهم بوصفهم: "أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية، فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على مناهجهم...".[10]
وقال إمام الطائفة أبو القاسم الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال: "علمنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يُقتدى به ".[11]
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني- رحمه الله تعالى-: "كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة، طِرْ إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، اجعله وزيرك ومعلمك...".[12]
وقال منكرا على من يعتقد أن التكاليف الشرعية تسقط عن السالك في حال من الأحوال: "ترك العبادات المفروضة زندقة، وارتكاب المحظورات معصية، ولا تسقط الفرائض عن أحد في حال من الأحوال".[13]
ويقول سهل التُستري[14]: "أصولنا سبعة أشياء: "التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق". [15]
وقال النصرآبادي[16]: "أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات".[17]
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى يقول: "إذا عارض كشفك الصحيح الكتاب والسنة فاعمل بالكتاب والسنة ودع الكشف، وقل لنفسك: إن الله تعالى ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام".[18]
وقال أبو الحسين الوراق رحمه الله تعالى: "لا يصل العبد إلى الله إلا بالله، وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث يظن أنه مهتد".[19]
وقال الشيخ الشعراني: "إن طريق القوم محررة على الكتاب والسنة كتحرير الذهب والجوهر، فيحتاج سالكها إلى ميزان شرعي في كل حركة وسكون".[20]
وسئل أبو يزيد البسطامي عن الصوفي فقال: "هو الذي يأخذ كتاب الله بيمينه وسنة رسوله بشماله، وينظر بإحدى عينيه إلى الجنة، وبالأخرى إلى النار، ويأتزر بالدنيا، ويرتدي بالآخرة، ويلبي من بينهما للمولى: لبّيك اللهم لبّيك".[21]
وورد عنه أنه قال: "لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود وأداء الشريعة".[22]
ونقل السيوطي في كتابه "تأييد الحقيقة العلية" قول أبو سليمان الداراني[23]: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة".[24]
وغير هذه النصوص كثير، مما يدل على أن التصوف الإسلامي هو جوهر الدين الإسلامي، إنه السلوك إلى طريق ملك الملوك، وهو التزام كامل بالإسلام، ويقين عميق في الإيمان، واستشعار لحضرة الله تعالى في كل الحركات والسكنات، وذلك هو الإحسان، وأقوال رجاله شاهدة على ما تقيّدوا به من حدود الشريعة، وامتازا به من الصدق والإخلاص والورع، وجعلِ تصفيه النفس شعار حياتهم، ولم نجد في التصوف أمرا مغايرا للإسلام، بل إنه الإسلام بعينه، ولو ذهبنا نستقصي ألوان التزييف في التصوف لما وسعنا هذا البحث، إذ التصوف كان نصيبه من الدس والافتراء أعظم من غيره، لأن المزيفين أدركوا أن التصوف هو روح الإسلام، وأن الصوفية هم قوته النافذة الضخمة، وشعلته الوضاءة المشرقة، فأرادوا أن يطفئوا هذا النور، ويأبى الله عز وجل إلا أن يتم هذا النور ولو كره المغرضون. يقول الله عز وجل: ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون﴾.[25]
الهوامـــــــــش:
[1]- سورة الحشر، الآية: 7.
[2]- اليواقيت والجواهر، الشعراني، دار صادر، بيروت، لبنان، ط1، 1424ھ-2003م، ص: 341.
[3]- قضية التصوف المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، دار المعارف، ط6، 2008م، ص: 377.
[4]- هو الزاهد المشهور، أصله من خراسان، سكن بمكة، ثقة عابد إمام، (ت187ﮪ). ترجمته في: صفة الصفوة، ابن الجوزي، 1/428؛ حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، 8/87؛ طبقات الشعراني، الإمام الشعراني، ص: 99؛ الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، ص: 424؛ وفيات الأعيان، ابن خلكان، 3/424.
[5]- هو أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم بن منصور، الزاهد الصدوق، من كدرة بلخ – كانت القلعة السياسية لولاية خراسان، ثم أصبحت المركز الثقافي والديني لمملكة طخارستان-، كان من أبناء الملوك الأشراف حيث كان أبوه كثير المال والخدم، (توفي سنة 161ھ-778م) ترجمته في: الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، ص: 391؛ صفة الصفوة، ابن الجوزي، 2/334.
[6]- هو الشيخ حمّاد الحلبي، الصالح الزاهد العابد، كان لله وليا وللخير مليا، جاهد نفسه حتى صار سلاحه صلاحه، ظهرت له كرامات وأحوال ترشد إلى الهدى. (ت726ﮪ). ترجمته في: الكواكب الدرية، عبد الرؤوف المناوي، 2/281.
[7]- مجموعة الفتاوي، ابن تيمية، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي، وأشرف جلال الشرقاوي، دار الحديث، القاهرة، ط: 1427ھ-2006م، 10/500.
[8]- الاعتصام، الشاطبي (790ﮪ)، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان، الدار الأثرية، عمّان، الأردن، ط2، 1428ھ-2007م، 1/147-148.
[9]- المصدر السابق، 1/165-166.
[10]- نفسه، 1/165-166.
[11]- الإمام الجنيد سيد الطائفتين: مشايخه، أقرانه، تلامذته، أقواله، كتبه، رسائله، أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1427ھ-2006م، ص: 150-151.
[12]- الفتح الرباني، عبد القادر الجيلاني، تحقيق: أبو سهل نجاح عوض صيام، المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، د.ط، ص: 162، المجلس الرابع والأربعون.
[13]- يُنظر المصدر السابق.
[14]- سهل بن عبد الله التستري أبو محمد (200-283ھ)، أحد أئمة القوم، لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع، ترجمته في: طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي (ت412ھ)، تحقيق: نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1418ھ-1997م، ص: 206-207.
[15]- طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السلمي (ت412ھ)، تحقيق: نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1418ھ-1997م، ص: 210.
[16]- أبو القاسم إبراهيم النصرآبادي (ت369ھ)، شيخ خراسان في وقته، كان عالما بالحديث، كثير الرواية. ترجمته في: طبقات الصوفية، عبد الرحمن السلمي، ص: 484-488.
[17]- الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص:438.
[18]- إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة الحسني، تحقيق: محمد عزّت، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ط، ص: 368.
[19]- طبقات الصوفية، السلمي، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط3، 1418ھ-1997م، ص: 279.
[20]- لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، عبد الوهاب الشعراني، تحقيق: أحمد عزّو عناية، دار التقوى للطباعة والنشر، ط1، 1425ھ-2004م، ص: 11.
[21]- شطحات الصوفية، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات للنشر، الكويت، د.ط، ص: 124.
[22]- الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري، ص: 397.
[23]- عبد الرحمن بن عطية أبو سليمان الداراني (ت215ھ)، تابعي، إمام من أئمة الصوفية، اشتهر بالنسك والعبادة. ترجمته في: حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 2007م، 9/267-292.
[24]- تأييد الحقيقة العلية، السيوطي، تحقيق: عبد الله بن الصديق الغماري، مكتبة القاهرة، ط3، 2008م، ص: 70.
[25]- سورة الصف، الآية: 8